ثلاثة مؤشرات:
المؤشر الأول:
مع تصاعد أعمال العنف الإسرائيلي غير المبررة، مع ما يقابلها من تأييد سلطوي غربي أعمى، دخلت الأيديولوچية الصهيونية الاستعمارية في أزمة؛ فقد بدأت البلابل تثار لدى الرأي العام المتخبِّط، وبدأت الأيديولوچية تفقد شرعيتها شيئًا فشيئًا، ومن ثم أخذت في البحث عن مصدر تستمد منه شرعية جديدة لمواجهة انهيار محقق..
ولقد جاءت الأحداث بترتيب الله العليم الحكيم مزيَّنة في أعين الصهاينة، وموافقة (ظاهرًا) لما ذهبوا إليه في مخيلاتهم؛ فبعد أن أعلنت إسرائيل قيام دولتها في 1948، بادر زعماء الصهيونية المسيحية بالإعلان -كما جاء على لسان الرئيس الأمريكي السابق چيمي كارتر- بأنه: «يعني خلق إسرائيل في عام 1948م العودة أخيرًا إلى أرض الميعاد التي أُخرج منها اليهود منذ مئات السنين… إن إقامة الأمة الإسرائيلية هو تحقيق للنبوءة التوراتية والتنفيذ الجوهري لها».
وحينها كتب الطبيب الإنجيلي المبشِّر الدكتور لمويل نيلسون بيل رئيس تحرير مجلة (المسيحية اليوم Christianity Today) يقول: «حقيقة أن توجد القدس الآن، للمرة الأولى منذ ألفي عام، بين أيدي اليهود وحدها يثير القارئ المولع، الذي هو أنا، بالكتاب المقدس وينعش إيمانه بصحة وملائمة رسالته».

المؤشر الثاني:
وما لبث أن تعزز هذا الموقف بانتصار إسرائيل في حربها (الوقائية) في مايو عام 1967 على مصر وسوريا والأردن، والتي عرفت باسم (حرب الأيام الستة) أو (نكسة 67). يقول مايكل پريور: «لم يتم الاستناد الصريح على الكتاب المقدس بشكل بارز لدعم القومية الصهيونية إلا قبيل عام 1967م».
وتقول باربرا ڤيكتور: «في عام 1967، حينما هزمت إسرائيل الجيوش العربية إبان حرب الأيام الستة، مستولية على القدس وسواها من الأراضي (الأرض التوراتية لإسرائيل)، رأى المسيحيون الإنجيليون في ذلك علامة على أن الأيام الأخيرة كانت قريبة. منذ نشوء إسرائيل في 1948م – النشوء الذي وصفه أتباع حركة البرنامج الإلهي بـ(أهم علامة على قيام الساعة)، بل بالعلامة الكبرى -، لم تكن حماسة المسيحيين الأصوليين قد بلغت قط تلك الذرى. في الولايات المتحدة، حتى العَلْمانيون، الذين أصابتهم الهلاوس جراء التهديد السوڤيتي هلّلوا لذلك الانتصار، معتبرين أن الدولة اليهودية كانت آخر معقل للديمقراطية في تلك المنطقة المضطربة من العالم. في الواقع، سادت الغبطة العالم بأسره. أخيرًا وبعد اضطهادٍ لليهود على مدى ألفيتين، أخذت الكنائس الواحدة تلو الأخرى تبدي ندمها وتتعهد بأن تعترف في تعاليمها بـ(تحالف الله الأبدي مع الشعب اليهودي)، و(مساهمة اليهودية في الحضارة العالمية وفي العقيدة المسيحية)».
أما على الجانب اليهودي، «فبعد احتلال ما تبقى من فلسطين في حرب يونيو 1967، طرأ تحول على مواقف معظم الأحزاب الدينية الصهيونية وغير الصهيونية، من اعتبار هذه الحرب معجزة وإشارة ربانية إلى اعتبارها بداية الخلاص. وفي الأوساط الدينية غير الصهيونية انطلق الصوت الجديد من الولايات المتحدة، موطن زعيم حركة (الحاباد Chabad)، الحاخام مناحم مندل شنيرسون بالقول: “صحيح أن دولة إسرائيل بوصفها كيانًا صهيونيًا تعبير عن الكفر والتمرد على إرادة الله، ولذلك فهي بالتأكيد ليست تعبيرًا عن الخلاص. لكن، ومن ناحية أخرى، فإن أرض إسرائيل بسيادة يهودية تنطوي على معان ذات أهمية”. ولذلك تدعو هذه الحركة إلى عدم التنازل عن أيٍّ من الأراضي التي احتُلت عام 1967م، وذلك من منطلق أحكام الشريعة الدينية».

المؤشر الثالث:
بقي مؤشر ثالث منتظر، وهو تدمير المسجد الأقصى لبناء الهيكل على أنقاضه وإقامة ملك داود..
ولقد اتفق الصهاينة من اليهود والنصارى على صحة هذه المؤشرات الثلاثة، ولكن بقيت قضية أصلية لم تحسم بعد! وهي هوية المسيح المنتظر؛ فاليهود تقول: إنه المسيح (ابن داود) الذي لم يُبعث بعد، في حين أن النصارى تقول: إنه المسيح بن مريم عليه السلام، والذي حينما يأتي ستؤمن له الصفوة اليهودية التقية، ثم بعدها سيبيد كل من لا يؤمن بالنصرانية، هذا باختصار. وكلا الفريقين يغض طرفه عن هذه المعضلة (المستحيل) حلها، ويتعامل مع الآخر بسذاجة ومكر أبله!؛ «ففرح النصارى باليهود ورعايتهم لهم هو أشبه بفرح علماء المختبرات بالعثور على الفئران أو الضفادع أو الحيات النادرة التي لا يمكن إنجاح التجارب إلا بها، وهذه المخلوقات على وضاعتها وحقارتها، وخطورتها تلقى كل الرعاية والحرص، لا حبًا فيها ولكن، لأن الاختبارات لن تُجاز إلا بها! فالمسيح لن يأتي إلا بعد خروج الدجال، والدجال لن يأتي إلا بعد عودة اليهود إلى القدس وهدمهم للأقصى وبنائهم للهيكل وذبحهم للبقرة… إلخ»، ذلك في حين أن «اليهود يستثمرون عقيدة النصارى بخبث ودهاء، وينظرون إليهم على أنهم (بلهاء) إذ يقتنعون بالتعاون حاليًا معهم على هدم المسجد الأقصى، وإعادة بناء الهيكل، باعتباره القدر المتفق عليه بينهما، في حين يُؤَجَّل حسم نقاط الخلاف بينهما إلى ما بعد مجيء المسيح المنتظر». والعجيب أنهم يسعون في الأمر وكأنهم يريدون أن يتحكموا فى صناعة الأقدار واستخراجها عنوة من مكنون الغيب ومستور القضاء إلى عالم الشهادة، ولو أحسنوا التفريق بين الأمور (الكونية القدرية) والأمور (الشرعية الإرادية) لأدركوا أن الأمور الكونية القدرية واقعة لا محالة، وأنها لا تُستدعى قهرًا من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.

وتأمل معي ما صرَّح به السفاح أرييل شارون في مقابلة له، حيث قال: «حينما يأتي المُخَلِّص سنطرح عليه السؤال؛ سنسأله إن كانت هذه رحلته الأولى إلى الأرض المقدسة، أم أنه سبق وزار البلاد. في الأثناء، ليس لمصلحتنا رفض الأصدقاء الوحيدين والحلفاء المخلصين لنا، خصوصًا وأن لدينا عدوًا مشتركًا: الإسلام».
وفي المقابل يقول أحد الإنجيليين: «في الوقت الحاضر نحتاج إلى جميع الأصدقاء لدعم إسرائيل، فإذا جاء المسيح، يومذاك نفكر بالأمر. أما الآن فلنمجد الرب ولنرسل الذخيرة إلى إسرائيل».
وبحسب ديڤيد هاريس، المدير التنفيذي للجنة الأمريكية اليهودية American Jewish Committee AJC، فإن الاستعداد للاصطفاف مع اليمين المسيحي، پراجماتي في الأساس: «ربما تأتي نهاية الأزمنة غدًا، لكن إسرائيل على المحك الأول».
ولذلك، فإني لم أجد لتعريف هذا التحالف (المؤقت) أدق من وصف جريس هالسل له بأنه «زواج مصلحة»؛ إذ تذكر هالسل أن هذا الزواج إنما هو نوع من «السامية الفلسفية التي تدعو إلى اعتبار اليهود الشركاء المحبوبين، ليس لأنهم يهود ويمارسون اليهودية، ولكن لأن لهم دورًا في خلاص المسيحيين».
فاليهود شعب – كما يتواتر القول على لسان الإنجيليين – «يبارك الله مباركيه ويلعن لاعنيه»، وهذا أصلٌ أقاموه اعتمادًا على ما جاء في سفر التكوين من قول الرب لإبراهيم عليه السلام: «ارحل من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة، وأبارك مباركيك وألعن لاعنيك، ويتبارك بك جميع عشائر الأرض».
يقول الإنجيلي الأمريكي الشهير چيري فالويل: «نحن إلى جانب إسرائيل لا لأننا نعتقد بأنهم أكثر ذكاءً، أو لديها شيء خاص أو محبوبة أكثر، وإنما لأن الله اختار إبراهام لافتداء العالم أجمعين، وليس اليهود فحسب. بكلام آخر، نحن نساند دولة إسرائيل والشعب اليهودي من أجل تحررنا أيضًا، بما أن الشعب اليهودي هو مفتاح هذا التحرر».

إذن، فإن حب الإنجيليين لليهود هو حب لشعب (مخلِّص) لا حب لأفراد، ولذا فلا عجب حينما تجد الإنجيليين ذاتهم يصدرون تصريحات مشبعة بمعاني الحقد والكراهية لليهود (كأفراد)، كما يقول، على سبيل المثال، چيري فالويل في كتابه (اسمعي، أمريكا! Listen, America!): «سيبقى اليهود عميان طالما أنهم لا يتحولون إلى المسيحية».
وكما يلاحظ الباحث (الإسرائيلي/الأمريكي) چيرشوم جورنبرج Gershom Gorenberg، أن اللاهوت القدري لا يتوقع مصيرًا سعيدًا لليهود: «فاليهود، في نهاية الأزمنة، إما يموتون، وإما يرتدون». وحذر من أن المسيحيين الصهاينة، في شكل خاص، «لا يحبون الشعب اليهودي. يحبوننا كشخصيات في روايتهم، في مسرحيتهم… وهي مسرحية من خمسة فصول، يختفي فيها اليهود في الفصل الرابع»!.

ولكن رغم ذلك تشير جريس هالسل إلى أنه «لم يكن كل الأصوليين المسيحيين لاساميين. فكما هو متوقع في كل جماعة، توجد اختلافات شخصية وسياسية بينهم، الأمر الذي يجعل التعميم خاطئًا وخطيرًا»، ويؤيد ذلك ما تذكره باربرا ڤيكتور من أنه في «عام 2000 كان هذا الانفراج بين المسيحيين الإنجيليين واليهود قد استقر جيدًا، بحيث إن مجموعة مهمة من الحاخامات والباحثين اليهود المؤثرين وقَّعوا إعلانًا لاهوتيًا يدعو اليهود إلى الكف عن تنمية الخوف والريبة حيال النصارى، والاعتراف بالجهود المبذولة من قبل الكنيسة منذ المحرقة لإصلاح العقيدة المسيحية الخاصة باليهودية. هذا الإعلان كان بعنوان: Dabru Emet، وهو تعبير توراتي يعني (تبادلوا الكلمات الصادقة). وقد نُشِر في لوحات إعلانية مدفوعة الأجر في نيويورك تايمز وبالتيمور صن The Baltimore Sun، ومن ثم نُشِر من قِبَل معهد الدراسات اليهودية والمسيحية Institute for Christian and Jewish Studies ICJS، المنظمة البين-دينية المستقلة في بالتيمور».
وأيًا كان الأمر، فإن هذه الفروقات، أي كون القوم ساميين أم لا، لا تفيد الكثير من زاوية الرصد العامة التي نرصد بها الوضع السائد المتغاضى عنه، وكما تذكر هالسل، «فإن العديد من اليهود الصهيونيين يقولون إنهم مسرورون لتصرف المسيحيين بهذه الحرارة. إنهم ينسبون الفضل إلى المسيحية الصهيونية في مساعدة الصهيونية اليهودية الحديثة لتحقيق هدفها: خلق دولة يهودية حيث لا يرحب بغير اليهودي مواطنًا فيها»، وتبرهن على ذلك بقولها: «في السادس من فبراير 1985، ألقى سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة بنيامين نتنياهو خطابًا أمام المسيحيين الصهاينة قال فيه: “لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل، وهذا الحلم الذي يراودنا منذ 2000 سنة، تفجر من خلال المسيحيين الصهيونيين”، وقال كذلك: “المسيحيون ساعدوا على تحول الأسطورة الجميلة إلى دولة يهودية”».

ولكن لا نغفل عن التذكير بأن الذي دعم بقوة الخطوات العملية نحو التعجيل بوقوع (المؤشر الثالث) هو – كما تصف هالسل – تجاوز شهرة عقيدة هرمجدون ما يسمى (المعتوهين) ووصولها إلى أعلى مستوى في السلطة الحكومية!.
تقول: «في الستينات كنت أعمل كاتبة في البيت الأبيض، عندما انفجرت إحدى حروب الشرق الأوسط (حرب يونيو 1967). لم أكن أعرف الكثير عن الشرق الأوسط خارج قصص العهد القديم. ومع وصول الرئيسين چيمي كارتر ورونالد ريجان [1911-2004] إلى سدة الرئاسة أصبح يتردد على مسامعي مزيد من الكلام عن هرمجدون».
ويقول محمد السماك: «طبعًا كان يمكن أن يبدو كل هذا السيناريو، وكل هذا الكلام مجرد خزعبلات دينية، أو مجرد هلوسة دينية، ولكن عندما يكون من بين المؤمنين بها إيمانًا شديدًا وصادقًا شخصيات كالرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان، ووزير دفاعه كسپار وينبرجر وغيرهما من كبار الشخصيات الأمريكية السياسية والعسكرية التي تتبوأ مراكز قيادية، فإنها تأخذ بعدًا خاصًا. وعندما تتولى هذه الشخصيات توزيع نسخ من كتاب هال ليندسي على كل أعضاء البيت الأبيض، وموظفي الپنتاجون وقادة الجيوش الأمريكية، وعلى جميع أعضاء الكونجرس (الشيوخ والنواب)، وعلى حكام الولايات المتحدة وكل الشخصيات النافذة، عندما يحدث ذلك بهذه العلانية (المجهولة في المشرق العربي على الأقل) فإن السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط تصبح مجرد ترجمة لهذا المفهوم الإنجيلي المتهود للمسيحية».

ومردّ ذلك في حقيقة الأمر إلى مدى اقتراب الإيڤانجليكيين من سدة الحكم، وكما يذكر چون ميكلثوايت وأدريان وولدريدچ «كانت حقبة ريجان بمثابة المرة الأولى التي يكون أحدهم فيها في البيت الأبيض، وهو إحساس لم يتكرر حتى حلول إدارة چورچ بوش الابن».
يقول ميكلثوايت وولدريدچ: «حتى أواسط السبعينات، كانت صلات المسيحيين الإڤانجليكيين بالديمقراطيين أوثق من صلاتهم بالجمهوريين. فاتجهت أصوات أغلبية الإيڤانجليكيين لچيمي كارتر في سنة 1976. إلا أن انحراف الديمقراطيين جهة اليسار أثار حفيظة الإيڤانجليكيين… وكان كارتر أثار حفيظة عدو عنيد؛ فالديانة الإيڤانجليكية كانت تتقدم… وكان الإيڤانجليكيون بداية يقاومون إغراء التدخل في عالم قيصر (العالم الأرضي). وفي أوائل السبعينات، أخذ القسس يعظون الناس بأهمية الخلاص الفردي لا العمل الجماعي. كان چيري فالويل يقول: “ليس مطلوبًا من الوعاظ أن يكونوا ساسة، بل روحانيين”. إلا أن فالويل وجماعته وجدوا أنفسهم يتورطون شيئًا فشيئًا في عالم السياسة بعد أن استفزتهم الدوامة التي تجر البلاد لأسفل. يقول فالويل: “الشيطان حشد قواه لكي يدمر أمريكا، وأراد الرب أصواتًا ترتفع لتخلص الشعب من الاضمحلال الخلقي الروحي”… وفي 1979، أضفى المحافظون واليمين الديني صفة رسمية على الرباط الذي جمعهما».
ولكن هنا تجدر الإشارة إلى أمر مهم؛ وهو أن الموقف الأمريكي تجاه المسألة الإسلامية العامة والفلسطينية الخاصة لا يختلف الكثير بين الديمقراطيين الليبراليين والجمهوريين المحافظين. ولذا فإن الخلاف الداخلي الكائن بالفعل بين الاتجاهين لا يعنينا كثيرًا في هذا الباب، فإن الغاية الخارجية واحدة وإن اختلفت السياسات، والغاية – وفق المذهب المكياڤيللي – تسوِّغ الوسيلة.