ذكر محمد في التوراة

ذكر النبي محمد في التوراة والإنجيل

نستعرض في هذا المقال بعض هذه الدلائل الواضحة التي لا تزال موجودة إلى اليوم في الأسفار القديمة المحرفة، فإن الحق تتعدد شواهده وتزداد محامده..

فمن بشارات النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في التوراة (العهد القديم):

ما جاء في سفر التثنية من قول الرب لموسى: «سأقيم لهم نبيًا من بين إخوتهم مثلك وألقي كلامي في فمه فينقل إليهم جميع ما أكلمه به. وكل من لا يسمع كلامي الذي يتكلم به باسمي أحاسبه عليه [وفي بعض النسخ: «…سأكون أنا المنتقم»]، وأي نبي تكلم باسمي كلامًا زائدًا لم آمره به، أو تكلم باسم آلهة أخرى، فجزاؤه القتل» [التثنية 18: 18-20].

فهذه البشارة تأتي صريحة في النبي العربي الأمّي محمد صلى الله عليه وسلم، لا تُحْتَمَل على غيره، وذلك لعدة أمور، منها:

قوله: «نبيًا..مثلك»: فلقد جاء في سفر التثنية كذلك أنه «لم يظهر بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى، الذي خاطبه الرب وجهًا لوجه» [التثنية 34: 10]، ويقر ذلك چيمس دُوو James L. Dow في قاموس (كولينز چِم للإنجيل Collins Gem, Dictionary of the Bible) بقوله ما نصه: «The only man of history who can be compared even remotely to him [i.e. Moses] is Mahomet»، أي إن الرجل الوحيد في التاريخ الذى يمكن مقارنته بموسى عليه السلام – حتى في أبعد التفاصيل- هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد أشار ربنا جل جلاله إلى هذا في قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا) [المزمل: 15].

وفي قوله: «من بين إخوتهم»: الخطاب موجه لقوم موسى (بني إسرائيل) ككل. ولذا فالمقصود بـ(إخوتهم) هم العرب ذرية إسماعيل عليه السلام، كما جاء لفظ (الإخوة) بهذا الاستعمال الحقيقي في حق إسماعيل عليه السلام في سفر التكوين: «وأمام جميع إخوته يسكن» [التكوين 16: 12]، ومعلوم أن رسولنا محمدًا صلى الله وعليه وسلم هو من ذرية إسماعيل عليه السلام، وأنه استجابة الله تعالى لدعاء إبراهيم الخليل عليه السلام حينما قال: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [البقرة: 129].

أما عن قوله: «وألقي كلامي في فمه»: فلقد جاء بسفر أشعياء في فصل بعنوان (مصير أورشليم) ما يلي: «ثم تُناولونه لمن لايعرف القراءة وتقولون له: اقرأ هذا، فيجيب: لا أعرف القراءة» [أشعياء 29: 12]، والمشهور من صحيح السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمِّيًا لا يعرف القراءة والكتابة.

وقوله: «فينقل إليهم جميع ما أكلمه به»: فلقد جاءت الأوامر في القرآن الكريم على السياق التالي: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1]، (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162]، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة: 219]… إلخ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم: (مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3-4].

بل وقوله: «الذي يتكلم به باسمي»: فيلاحظ أن القرآن الكريم يبدأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

وفي النهاية تختم البشارة بقوله: «وأي نبي تكلم باسمي كلامًا زائدًا لم آمره به، أو تكلم باسم آلهة أخرى، فجزاؤه القتل»، يقول رحمة الله الهندي: «صرح في هذه البشارة بأن النبي الذي ينسب إلى الله ما لم يأمره يقتل، فلو لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا حقًا لكان يُقتَل، وما قُتِل بل قال الله في حقه: (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس) [المائدة: 67]، ولم يقدر على قتله أحد حتى لقي الرفيق الأعلى، وعيسى عليه السلام قُتِل وصُلِب على زعم أهل الكتاب. فلو كانت البشارة في حقه لزم أن يكون نبيًا كاذبًا كما يزعمه اليهود والعياذ بالله»اهـ.

***

دلائل نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- في التوراة والإنجيل:

كذلك فإن من تلك البشريات النبوية في العهد القديم، ما جاء بسفر التثنية أيضًا من قول: «وهذه هي البَرَكة التي بارك بها موسى رجُل الله بني إسرائيل قبل موته. فقال: أقبل الرب من سيناء، وأشرق لهم من جبل سعير وتجلَّى من جبل فاران، وأتى من رُبى القدس وعن يمينه نار شريعة لهم» [التثنية 33: 1-2]، وفي بعض النسخ: «وعن يمينه نار مشتعلة».

ومعلوم أن جبل الطور بسيناء هو المكان الذي كلَّم الله تعالى فيه موسى عليه السلام [مريم: 52، القصص: 46، سفر الخروج 19: 20 وما بعدها]، وآتاه الألواح، (وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف: 154]، أما سعير فهي قرية بفلسطين، تقع في جنوب الضفة الغربية إلى الشمال الشرقي من مدينة الخليل، وهي مكان ولادة عيسى عليه السلام. وأما فاران فهي سلسلة الجبال الواقعة بمكة المكرمة، وورد بسفر التكوين أن فاران هو المكان الذي ترك فيه إبراهيم عليه السلام زوجته هاجر وولده إسماعيل عليهما السلام [سفر التكوين 21: 19-21]، وقد قال تعالى على لسان إبراهيم: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم: 37].

كذلك فإن وادي بكة الذي فيه الكعبة بيت الله الحرام، وأول بيت وضع للناس كما أخبر ربنا جل وعلا: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) [آل عمران: 96]، قد جاء ذكره في (المزمور 84: 6) في نسخة الملك چيمس KJV هكذا: «Who passing through the valley of Baca make it a well»، وكما يتضح من العبارة أن (بكة) هو اسم علم يكتب بحرف كبير Capital Letter لتمييزه. ذلك في حين أن النسخ العربية – وبعض الأجنبية كذلك – حرفت الاسم (بكة) إلى (وادي البكاء valley of weeping) تارة، و(وادي الجفاف dry valley of Baca) تارة أخرى، بل و(وادي البلسان valley of balsam-trees) تارة ثالثة، رغم أنه معلوم من قواعد اللغة أن أسماء الأعلام لا تترجم وإنما تنقل كما هي! كذلك فإننا لو أكملنا العبارة في بعض النسخ العربية فسنجدها تقول: «هنيئًا للذين عزتهم بك وبقلوبهم يتوجهون إليك. يعبرون في وادي الجفاف فيجعلونه عيون ماء بل بركًا يغمرها المطر. ينطلقون من جبل إلى جبل ليروا إله الآلهة في صهيون» [المزمور 84: 6-8]، أليست هذه صفة الحجيج إلى بيت الله الحرام، ينتقلون من جبل إلى جبل؟ الصفا والمروة؟؟ فمن أين جاء ذكر (صهيون) إذن؟!

ولو بحثنا قليلًا لوجدنا في (دائرة المعارف الكتابية Encyclopædia Biblica) ذكر ما نصه [دائرة المعارف الكتابية (2/189)، مادة: (بلسان)]: «أما البلسان الحقيقي الذي ذكره المؤلفون القدماء فهو (بلسم مكة) الذي ما زالت مصر تستورده من شبه الجزيرة العربية كما كان الأمر قديمًا… وشجرة البلسان لا تنمو الآن في فلسطين، وقد بحث عنها دكتور پوست Post وغيره من علماء النبات في الغور وفي جلعاد، ولم يعثروا لها على أثر، كما لم يعثروا عليها فيما حول أريحا التي يذكر پليني [Pliny the Elder (23-79م)] أنها كانت موطن الشجرة. ويقول استرابو [Strabo (63/64ق.م-24م)] إنها كانت تنمو حول بحر الجليل وكذلك حول أريحا ولكنهما وغيرهما من الكتاب القدماء اختلفوا في وصف الشجرة مما يدل على أنهم كانوا ينقلون عن مصادر غير موثوق بها»اهـ.

ولكن انظر معي ما جاء في دائرة المعارف نفسها، في النسخة العربية ذاتها، مادة: (بكا – وادي البكاء)، حيث تقول: «يقول المرنم: “عابرين وادي البكاء يصيرونه ينبوعًا” (مز 84: 6)، فهو وادي الدموع. ولا تذكر هذه الكلمة (البكاء) كاسم علم إلا في معركة داود مع الفلسطينيين، عندما سأل الرب: هل يصعد إليهم؟ فقال له الرب: لا تصعد بل در من ورائهم وهلم عليهم مقابل أشجار البكا… (2 صم 5: 23و24، 1 أخ 14: 14و15) [وفي النسخة العربية التي بحوزتي: «أشجار البلسم» [صموئيل الثاني 5: 23، وأخبار الأيام الأول 14: 14]، وفي نسخة الملك چيمس KJV: «mulberry trees»، وفي نسخ أخرى: «balsam trees»، هكذا غير مميزة بحرف كبير Capital Letter].

ولعل المقصود بها أشجار البلسان لأنها تفرز مادة صمغية وكأنها الدموع…»، إلى أن تقول: «ولكن الأرجح أن وادي البكا (مز 84: 6) ليس موضعًا جغرافيًا معينًا ولكنه تصوير مجازي لاختبار المؤمنين الذين كل قوتهم في الرب، والذي بنعمته يجدون أحزانهم وقد تبدلت إلى بركات»اهـ[دائرة المعارف الكتابية (2/187)، مادة: (بكا – وادي البكاء)].

وغضت النسخة العربية الطرف عما ذكرته النسخة الإنجليزية الأصلية في الموضع ذاته، من أن توماس شايني Thomas K. Cheyne (1841-1915م) – أحد محرري الموسوعة – يفترض وجود تلاعب قد حدث بالاسم (بَكائِم)، حيث تقول ما نصه: «Cheyne… supposes a play on the name Bĕkā’īm».

ومعلوم أن (-إم -im) في اللغة العبرية هي زيادة Suffix تلحق بالكلمة في حال جمع المذكر، وكما جرت العادة في استخدام صيغة الجمع للتوقير والتعظيم [Encyclopædia Biblica: vol. 1, p(454): BACA]، فيصير المراد هنا الاسم (بكة Baca).

فما القول في هذا؟ أرى أن القول قول الله تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة: 79].

أيضًا، نلاحظ في الفقرة السابقة من سفر التثنية أن عبارة «وأتى من رُبى القدس» يقابلها في النسخ الإنجليزية: «he came with ten thousands of saints»، عدا – فيما وجدت – نسخة يونج Young’s جاء فيها: «and has come with myriads of holy ones»، وسكتت نسخة داربي Darby عن هذه العبارة. والمعنى أنه: «جاء ومعه عشرة آلاف قديس». فالملاحظ أن الترجمة العربية أسقطت هذه العبارة من النص، وكيف ذلك؟ ألا ينقلان من أصل واحد؟! نعم وإنما وقع ذلك لطمس حقيقة المراد من الآية؛ ذلك لأن أتباع موسى عليه السلام المخلصين كان عددهم سبعين رجلًا [الأعراف: 155، سفر الخروج 24: 1، سفر العدد 11: 16]، وأتباع عيسى عليه السلام المخلصين كان عددهم اثني عشر حواريًّا [متى 10: 1]، في حين أنه كما هو معلوم من السيرة النبوية أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين فتحوا مكة في رمضان في العام الثامن من الهجرة كان عددهم عشرة آلاف صحابي، وقد جعلها الله عز وجل علامة بارزة لأهل الكتاب، لما تبع ذلك من ظهور للإسلام وانتشار لدعوته.

كذلك نلاحظ في الفقرة ذاتها التعاقب الزمني لمبعث الأنبياء الثلاثة: موسى وعيسى ومحمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين، فتقول: «أقبل الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير،  وتجلَّى من جبل فاران»؛ وللحافظ ابن رجب الحنبلي كلامٌ نفيسٌ في المسألة، فيقول رحمه الله تعليقًا على ما رواه البخاري من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم، ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى، كرجل استعمل عمالًا، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط. ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط. ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس، على قيراطين قيراطين، ألا لكم الأجر مرتين. فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا: نحن أكثر عملًا وأقل عطاء، قال الله: هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا، قال: فإنه فضلي أعطيه من شئت» [رواه البخاري].

يقول رحمه الله: «فمدة هذه الأمم الثلاث كيوم تام، ومدة ما مضى من الأمم في أول الدنيا كليلة اليوم، فإن الليل سابق النهار، وقد خُلِقَ قبله على أصح القولين، وتلك الليلة السابقة كان فيها نجوم تضيء، ويُهتدى بها، وهم الأنبياء المبعوثون فيها. وقد كان فيهم أيضًا قمرٌ منيرٌ وهو إبراهيم الخليل عليه السلام، إمام الحنفاء، ووالد الأنبياء… وأما ابتداء رسالة موسى عليه السلام فكانت كابتداء النهار، فإن موسى وعيسى ومحمدًا عليه الصلاة والسلام هم أصحاب الشرائع، والكتب المتَّبَعَة، والأمم العظيمة. وقد أقسم الله بمواضع رسالاتهم في قوله تعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِين) [التين: 1-3 ]، وفي التوراة: “جاء الرب من طور سيناء، وأشرق من سعير، واستعلن من جبال فاران”، ولهذا سمَّى محمدًا صلى الله عليه وسلم سراجًا منيرًا، لأن نوره للدنيا كنور الشمس وأعمُّ وأعظمُ وأنفعُ. وكانت مدة عمل بني إسرائيل إلى ظهور عيسى كنصف النهار الأول، ومدة عمل أمة عيسى عليه السلام كما بين الظهر والعصر، ومدة عمل المسلمين كما بين العصر إلى غروب الشمس، وهذا أفضل أوقات النهار، ولهذا كانت الصلاة الوسطى العصر على الصحيح، وأفضل ساعات الجمعة ويوم عرفة من العصر إلى غروب الشمس. فلهذا كان خير قرون بني آدم القرن الذي بُعِثَ فيه محمد صلى الله عليه وسلم»اهـ. [فتح الباري لابن رجب (4/338-40) باختصار].

***

لعلنا نكتفي بهاتين الإشارتين الصريحتين من التوراة، لنتناول بعض البشريات النبوية في العهد الجديد (الإنجيل):

فلقد أخبر المسيح عليه السلام بني إسرائيل بأن الله سيستبدل بهم قومًا آخرين، كما جاء بإنجيل متَّى: «أما قرأتم في الكتب المقدسة: الحجر الذي رفضه البناءون صار رأس الزاوية؟ هذا ما صنعه الرب، فيا للعجب! لذلك أقول لكم: سيأخذ الله ملكوته منكم ويسلمه إلى شعب يجعله يُثمِر. من وقع على هذا الحجر تهشم. ومن وقع هذا الحجر عليه سحقه». [متى 21: 42-44 ].

ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من الزاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» [رواه البخاري].

كذلك فلقد جاء بإنجيل يوحنا ما يلى: «وأنا أطلب إلى الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد» [يوحنا 14: 16]: فيلاحظ العلماء أن كلمة (مُعَزِّي Comforter) يقابلها في النص اليوناني كلمة (فارقليط Paráclitos)، ويقول أهل اللغة أن كلمة Paraclete/Paráclitos هي في الأصل كلمة Periclyte/Periclitos، وهي الكلمة التي يعتقد أن السيد المسيح عليه السلام تلفظ بها، وهي كلمة سريانية أو أرامية بمعنى أحمد أو الإنسان الذي يحمد حمدًا كثيرًا.

لكن النصارى ينكرون كون المُعَزِّي هو محمد صلى الله عليه وسلم، ويقولون إن المراد هو روح القدس جبريل عليه السلام، قياسًا على نصوص أخرى، منها ما جاء بيوحنا: «ولكن المُعَزِّي، وهو الروح القدس، الذي أرسله الآب باسمي، سيعلمكم كل شيء ويجعلكم تتذكرون كل ما قلته لكم» [يوحنا 14: 26].

وغير أن آثار الوضع واضحة، فهو أيضًا ادعاء باطل من وجوه:

منها أنه جاء في رسالة يوحنا الأولى: «أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم» [رسالة يوحنا الأولى 4: 1] فيلاحظ أن كلمة (أرواح) جاءت في العبارة مرادفة لكلمة (أنبياء)، ويلاحظ أيضًا أن العبارة حذرت من خروج أنبياء كذبة، ولكنه تحذير عام، وبالتالي فلا بد من وجود أنبياء صادقين في المقابل. ولقد طالب كاتب الرسالة بضرورة التمييز بين هذين النوعين من الأنبياء، ووضع في رسالته المعيار لاختبار صدق نبوة المدعين كما يلي: «بهذا تعرفون روح الله، كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله» [رسالة يوحنا الأولى 4: 2].

وانظروا القرآن الكريم وتصفحوا، كم مرة ذكر فيها أن عيسى بن مريم هو المسيح عليه السلام؟ قال تعالى: (إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [آل عمران: 45 ]، وقال عز وجل: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ) [النساء: 171]… فوفقًا للمقياس الذى وضعه يوحنا في رسالته يتضح بالمطابقة أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو المُعزِّي الآخر.

ولقد جاء بإنجيل يوحنا: «صدقوني، من الخير لكم أن أذهب، فإن كنت لا أذهب لا يجيئكم المعزي، أما إذا ذهبت فأرسله إليكم» [يوحنا 16: 7]، وتشير العبارة السابقة إلى أن هذا المُعَزِّي لن يظهر إلا بعد رحيل المسيح عليه السلام، في حين أنه قد دلت بعض نصوص الإنجيل على مجيء الروح القدس قبل ولادة المسيح عليه السلام، كقوله: «وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس» [لوقا 1: 67]، بل وإنه قد جاء في حياته أيضًا، وذلك في قوله: «وحل الروح القدس عليه في صورة جسم كأنه حمامة» [لوقا 3: 22]. غير أن ما يستقيم فهمه من تعليق المسيح عليه السلام مجيء المعزي الآخر بذهاب الأول – أي عيسى عليه السلام – أنه لا بد أن يكون رجلًا [أعمال الرسل 2: 22] له نفس الطبيعة: يأكل [مرقس 11: 12-14] ويشرب [يوحنا 19: 28]، ويبكي [يوحنا 11: 35]…إلخ، وهل الروح القدس رجل يأكل ويشرب ويبكي…؟ أم إنه لم يكن المعزي الآخر؟!: (قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا) [الإسراء: 95].

ولكن نلاحظ أن المسيح عليه السلام قد وعد بأن هذا المعزي سيجيء «ليمكث معكم إلى الأبد»، فما هو المراد من قوله «إلى الأبد»؟ والمراد أنه سيمكث معنا بشريعته وتعاليمه، وقد قال الله تعالى في حق نبيه عليه الصلاة والسلام أنه (رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب: 40]، وقال عز وجل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3]، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حق الفرقة الناجية: «ما أنا عليه وأصحابي»، [رواه الترمذي، وحسنه الألباني]، وقال الله عز وجل: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].

المصدر: كتاب حصان طروادة؛ الغارة الفكرية على الديار السنّية.

اقرأ أيضا: قصة اليهود من الشتات إلى الشتات.