أمر طبيعي عندما يصدر البوستر الدعائي بهذه الاحترافية، أن يتهيأ المشاهد نفسيا لإبداء التعاطف مع قاتل متسلسل، شاذ جنسيا، ارتكب جرائم تشيب لها الولدان، فما بالك حينما يشاهد سيرته في عمل درامي لـ نتفليكس، يهدف إلى تحقيق أعلى المشاهدات والأرباح على حساب أي مبادئ أو قناعات، فلا محيد بالتالي عن التعاطف مع جيفري دامر ووسامته، ولعن الظروف التي أدت به لارتكاب هذه الجرائم -على غرار جعلوني مجرما- بل ولوم الضحايا التي ألقى بها القدر في طريقه، والتي بالتالي تستحق هذا الجزاء العادل.
في عام ٢٠١٥، كتب الأستاذ كريم طه فصلا بعنوان “القتلة المتسلسلون”، في كتاب “الأشرار، كيف أصبحنا نحب أشرار السينما“، جاء فيه:
“كانت فترة السبعينيات مليئة بالأخبار عن عمليات القتل والتعذيب التي يقوم بها المجرمون، وبدأت حينها مرحلة غريبة، كان يتابع فيها المجتمع الأمريكي أخبار القتلة المتسلسلين بشغف، وتأثرت السينما وأعمال التليفزيون بهذه الشخصيات، فتحول هؤلاء السفاحون من مجرد مجرمين ينبغي على المجتمع لفظهم والنفور منهم، إلى أبطال لهم قاعدة شعبية من المعجبين، فتأثرت بهم الأفلام، وظهرت كتب تحكي قصة حياتهم. أصبح المجتمع متعطشًا لمشاهد الدماء وإلى الإثارة (الأكشن) التي تصاحب العمليات البوليسية للقبض على هؤلاء المجرمين، الأمر الذي استدعى بالتالي ظهور أعمالٍ فنية تُضاهي -بل وتتخطى في بعض الأحيان- وحشية الواقع، فظهر العديد من الأفلام التي تُماثل في عدة جوانب منها الجرائم التي مرت بها الولايات المتحدة، مثل فيلم صمت الحملان 1991، وشخصية هانيبال ليكتر التي تقترب بشكل كبير من شخصية جيفري دامر، حتى إن بعض وسائل القتل كانت مستوحاة من جرائم حقيقية ارتكبها الأخير، فتزدوج بذلك الشخصية في أذهان المشاهدين، ليصبح هانيبل ليكتر وجيفري دامر وجهين لعملة واحدة.
وهناك ملاحظة مهمة؛ وهي أنه عند مجيء الحديث عن سِيَر سفاحين حقيقيين أمثال Jack the Ripper أو Ted Bundy، فإنك تستطيع أن تلمح مدى اهتمام وشغف الناس بالموضوع، وذلك في الطريقة التي يتحدثون بها عن هؤلاء المجرمين. ذلك الأمر دعا الدكتور Scott Bonn المتخصص في علم الجريمة Criminology إلى البحث وراء الأسباب التي تدفع عموم الناس إلى الإعجاب بشخصيات السفاحين، وأوضح في كتابه “لماذا نحب القتلة المتسلسلين” Why We Love Serial Killers: The Curious Appeal of the World’s Most Savage Murderers، أن هناك خمسة عوامل أساسية تدفع الإنسان الطبيعي إلى هذه “اللذة المذنبة” Guilty Pleasure -على حد وصفه- وقد وقع اختياره على هذا الاسم باعتبار أن الأصل في الإنسان السّويّ هو ميله إلى العيش في مجتمع آمن وراق أخلاقيًّا، يَلفظ المجرمين وينبذهم، لا يحتفي بهم، مثلما يحدث الآن.
هذه العوامل هي:
الأول: أن هؤلاء السفاحين يندر وجودهم؛ لذلك فأخبارهم تمثل عامل جذب للمستمع أو المشاهد، تمامًا مثل أخبار الكوارث الطبيعية.
الثاني: هو طريقة اختيار السفاحين لضحاياهم، فهم إما يختارونهم عشوائيًّا، أو من خلال إعجابهم الشخصي بالضحايا، أو حتى كلما سمحت لهم الظروف بارتكاب جريمة. وهذا يجعل كل فرد من أفراد المجتمع ضحية محتملة لهذا السفاح، فيدفعهم بالتالي الخوفُ ودافعُ حب الحياة الغريزي إلى الإلمام بجميع ظروف وملابسات الجرائم التي حدثت واقعيًّا.
الثالث: أن هؤلاء السفاحين يقدمون مادة ثرية للصحافة؛ وذلك لارتكابهم جرائم القتل المتسلسل الذي يمتد لعدة سنوات، بدلاً من قتل فرد أو أكثر في حادث واحد.
الرابع: هو رفض العقل البشري لفكرة القتل بدون أسباب ودوافع واضحة، فهؤلاء السفاحون يرتكبون جرائمهم بدم بارد دون أي سبب مفهوم أو منطقي، إلا رغبتهم في ارتكاب هذا الفعل. كما أن عقل الإنسان الطبيعي يَحار في مدى وحشية تلك الجرائم، ويتعجب من إقدامهم على ارتكاب مثل هذه الأفعال البشعة، وهذا يؤدي إلى السبب الخامس:
أن هؤلاء السفاحين -بجرائمهم الشنيعة- يوفرون للمشاهد جرعة من (الأدرينالين) في مجال آمن؛ فالمشاهد يتابع أخبارهم وتنتابه القشعريرة والخوف المصحوب بجرعة الأدرينالين، ولكنه يظل في نفس الوقت ماكثًا في بيته آمنًا من شرورهم، (ولا يخفى ما لهذا الإحساس الجامع (المزيج) بين الخوف والأمان من إثارة ومتعة، للحد الذي يجعل الكثير من وسائل الألعاب والترفيه تنبني عليه، كلعبة القفز بالحبال Bungee Jumping على سبيل المثال).
هذه التركيبة المعقدة دفعت سريعًا لتطوير شخصية الأشرار في الأعمال الفنية لتكون مواكبة للواقع وللحالة المزاجية التي يعيشها المشاهدون؛ فهم الآن في طور الاستعداد للعصر الجديد من الأشرار؛ أشرار السينما وأشرار الواقع.”
تعقيب: ما الإشكال في دراسة هذه الظاهرة أو استعراض سيرة هذه الشخصيات الإجرامية ودراسة نفسيتها ودوافعها وتفاصيلها الإنسانية وكل هذه الأمور المهمة، بدون تمرير عوامل التعاطف معها إلى المشاهد، كأن يتم السرد من زاوية أحد أو بعض الضحايا وأسرهم على سبيل المثال، الذين هم بالفعل أولى بالتعاطف من هؤلاء السيكوباتيين المجرمين.. أليس منكم رجل رشيد؟
اقرأ كذلك: لماذا نحب أشرار السينما ونتعاطف معهم؟