لماذا نحب الشخصيات الشريرة في الأفلام ونتعاطف معها؟
طِيلةَ عقودٍ مضت اعتدنا أن شرير السينما هو ذاك الرجلُ ذو البُعد الواحد؛ صاحب الملامح الماكرة، القبيحة عادة، الذي يفرك يديه وتعلو ضحكته ابتهاجًا بتدمير العالم مِن حوله، هكذا بلا أي دافع سوى الشر الخالص… الكُره المحض… السَّواد الكاحل…
كانت الميلودراما هي سيدة الموقِف، وكان الصراع بين الخير والشر، هو صراع بين الأبيض والأسود، واضح لا لَبْسَ فيه.
ومع تطور الحياة وزيادة تعقيداتها، تزامنًا مع تطور التكنولوجيا ووسائل الإعلام، التي أتاحت للناس الاطلاع على قدر أكبر من حيوات غيرهم وتفاصيلها المتداخلة والمتشعبة، سئم المشاهد هذا الفن السطحي، الذى بات رتيبًا وغير منطقي، وبدت حاجته لبدائل أكثر إثارة وتشويقًا، تدخل به في مساحات أكثر رمادية حيث يختلط السواد بالبياض، ويقترب فيها أكثر من واقعه المعيش. فبدأت حركة استبدال هذه الشخصيات الميلودرامية الشريرة بشخصيات أكثر عمقًا وتركيبًا، تحمل من الدوافع والأسباب الكثيرَ الذي يدفع المشاهد دفعًا إلى تفهُّم حالها، والتعاطف معها، بل والإعجاب بها وتبني وجهة نظرها، حتى تحِل عنده مَحَلَّ البطل التقليدي المثالي الطيب Hero، الذي لم يعد يتصدر المشهد كما مضى، كما يؤكد المخرج الأمريكي “جيمس مانجولد” James Mangold في إحدى اللقاءات على «أن تصبح بطلًا في القرن العشرين هو أمر أقل جاذبية Less cool».
استمرت هذه الشخصية الرمادية في الصقل والتطور حتى أفرزت شخصية الشرير المثير للشفقة، المستجدي لعطف المشاهدين Sympathetic Villain، الذي تظهر معه الدوافع الخفية لأفعاله الشريرة، والتي قد تحمل في طياتها أسبابًا منطقية أو أهدافًا نبيلة تبعث على التعاطف معه… كما أعادت بعث شخصية الـ AntiHero، نقيضة البطل، المتأرجحة بين البطولة والشر، والتي تفتقد صفات البطل المثالي، وتفعل الخير بطرق ووسائل غير أخلاقية، أو مدفوعة بمآرب خاصة أو سمات شخصية مضطربة كأن يكون شخصًا نرجسيًّا، ميكيافيلليًّا أو سيكوباتيًّا عدوًّا للمجتمع… ولقد صارت هذه الشخصية -الأنتي هيرو- هي الأكثر رواجًا وجاذبية في عصرنا الحاضر، لكونها الأقرب من طبيعة وواقع الإنسان، وحرصت السينما على إعادة بناء شخصيات الـ Supervillains القديمة في قالب الـ Sympathetic villains أو الـ AntiHeroes العصري لينطلق في رحاب غير محدود من الأفكار والخيال ولفت الانتباه وإثارة الجدل كذلك.
إذن، فإن هذا التطور أمر له أسبابه ودوافعه المنطقية لدى صنَّاع هذا الفن، والتي أشرنا لطرف منها فيما تقدم، إضافة إلى عوامل أخرى؛ منها ما تذكره الروائية “تَس كولينز” Tess Collins، في مقال لها بعنوان The Sympathetic Villain: «لا أعني باستخدامي كلمة Sympathetic إثباتَ تعاطف الكاتب مع الشخصية الشريرة، لكني أقصِد بها خلْق حالة من التقمص العاطفي لأجل تعزيز أبعاد الشخصية؛ لأنَّ الإشكالَ الذي نواجهه هو أنَّ الشخصية الشريرة ذاتَ البعد الواحد هي شخصية غير مشوقة للقراءة والاهتمام على وجه الخصوص … ومقومات شخصية الشرير المثير للشفقة هي نفسها مقومات شخصية البطل الطيب، والتي تتكون من: البُعد الفلسفي، الرؤية، البعد الإنساني، والنبذة التاريخية».
وتؤسس كولينز لقاعدة، فتقول: «إذا كنت تخشى من كتابة قصة تقليدية مُبتذلة “كليشيه” Cliché؛ فما عليك إلا أن تتخيل القصة من وجهة نظر الشرير لتخرج بذلك من التنميط».
أضيف إلى هذا الرأي مسألةً أخرى يَذكرها الدكتور “كيث جونستون” Dr. Keith M. Johnston، مُحاضر مادة الإعلام بجامعة إيست أنجليا البريطانية University of East Anglia، حيث يذكر أن ثمة تحولًا قد حدث في الأعمال الدرامية التليفزيونية في العقد الأخير، من تقديم الأعمال القصيرة (قصة الأسبوع) إلى تقديم الأعمال الطويلة والتي تمتد فيها القصة الواحدة إلى موسم كامل، وهذا يتطلب تقديم شخصيات ذات طبيعة سيكولوجية أكثر تركيبًا وتعقيدًا … فأصبح هناك إذن توجهٌ في الدراما التليفزيونية نحوَ إعادة تشكيل الشخصية الشريرة في قوالبَ نفسيةٍ أشدَّ تركيبًا.
ومن المهم وضع عاملٍ آخرَ في الحسبان، وهو من وجهة نظر الممثل نفسه، البارع في أداء دور الشرير؛ إذ إنَّ احتراف هذا الدور هو بضاعته وحرفته الأساسية التي تُحقق له المجد والشهرة والمال، فهو يجد نفسه بذلك مُلزَمًا بتجويدها وزيادة الإبداع فيها وخطف الأنظار إليها؛ وإلا في المقابل خفتت عنه الأضواء ويَفقد مصدرًا مهمًا لمجده الذاتي ودخله المادي.
أين الإشكال إذن؟
كما يبدو للوهلة الأولى أن مجموع العوامل المذكورة آنفًا معقول ومنطقي، بل ولازم لإنجاح العمل “فنيًّا”، ولكن في تقديري المتواضع الخاص، أن النجاح الفني والجماهيري ليسا كافيان وليسا هما الغاية، وبناء عليه، فلا أرى هذه العوامل والمسوِّغات كافية لتسويغ الحالة التي نرصدها في هذا الكتاب؛ وهي أن يَصير الشرير/الأنتي هيرو بطلاً يستحق الحب والتعاطف والتقدير، بل والترويج له و”تسليعه”؛ أي جعله سلعة جذابة للأطفال قبل الكبار، يُتربَّح من ورائها طائل المال، ويكون لها علامات تجارية خاصة ومميزة؛
كـ أشرار ديزني على سبيل المثال Disney Villains.
وأتصور أن اعتبار هذه العوامل -المذكورة آنفًا لإنجاح العمل وجعله أكثر واقعية وإنسانية واحترامًا لعقلية القارئ أو المشاهد أو المستمع- لا يلزم معه بالضرورة إيقاعه في شراك محبته والتعاطف معه، أو ترك النهايات مفتوحة تحت دعوى أن فرض الوصاية على المتلقي ليست من دور الفن؛ لأن ما يحدث في المقابل هو فرض وصاية عكسية بحب هذه النماذج المقدَّمة، والإنسان بطبيعة الحال هو داعٍ أو مدعو.
فخلاصة القول أن:
«معرفة الدوافع ليس مُسوِّغًا للإقرار على الأفعال»
ومن منطلق المسؤولية المجتمعية، وبالنظر إلى مآلات الأمور في الواقع المعاصر المعيش، وبالوثوق بأن الفن يصنع الواقع ويشكِّله، ويوجِّه المتلقي إلى وجهات خاصة، بدرجة تزيد عن تأثره -أي الفن- بالواقع في أكثر الوقت، أرى أنه لا بُد -وإن خالفْتُ في ذلك مفاهيم أرباب المذاهب الفنية الحرة- من تمييز الحبكات الفنية بإشارات مستترة وذكية إلى عواقب الأحداث والأفعال التي يتضمنها العمل ويؤديها الأبطال/الأشرار، خاصة في الأعمال المقدمة للأجيال الصغيرة الذين مازالت أجهزتهم المناعية ضعيفة وقناعاتهم الفكرية في طور التشكيل؛ فأصبحت في زماننا بداية علاقتهم بعالم ديزني -على سبيل المثال- هي سلسلة أفلام الـ Live Action السوداوية الجديدة، التي يعاد فيها سرد الحكايات القديمة من وجهة نظر أشرارها، أو من خلال التعرف على أشرار ديزني لأول مرة عن طريق الـ Origin stories المبتكرة للكاتبة الأمريكية “سيرينا فالنتينو” Serena Valentino في سلسلتها القصصية عن أشرار ديزني، والتي يكتشفون من خلالها أنها كانت شخصيات ذات حكمة ورزانةوقع عليها ظلم كبير، وأن ردود أفعالهم مقنعة ومسوَّغة.
ليس الإشكال في كون «كل شخص هو بالضرورة بطلَ قصة حياته» ”Everyone is necessarily the hero of his own life story.“، كما يؤثَر عن الروائي الأمريكي “جون بارث” John Barth، ولكن في الظاهرة التي يرصدها هذا الكتاب أرى -للأسف- إلزامًا واضحًا بما لا يلزم!
تأمل هذين المثالين …
Good is the new bad
نضرب بعض الأمثلة من الأعمال الفنية المشهورة، والتي بإمكاننا أن نلمح في ثناياها وترًا خفيًّا يتم الضرب عليه بشدة، وهو إعادة رسم مفاهيم الخير والشر لدى صغار السن. منها كلمات هذه الأغنية المذاعة في إحدى حلقات المسلسل الاستعراضي Descendants على قناة ديزني في عام 2015، والذي يحكي عن مغامرات أحفاد الجيل الأول من شخصيات ديزني الشهيرة، وجاءت هذه الحلقة تحت عنوان: Wicked world أي العالم الشرير، والذي يؤدي بطولته أحفاد أشرار ديزني، حيث جاءت كلمات الأغنية معلنة:
Call it good, call it bad
It’s the best you ever had
Good is the new bad
Bad is the new good…
«سمِّها خيرًا أو شرًّا، فذلك أفضل ما لديك على الإطلاق، الخير هو الشر الجديد، والشر هو الخير الجديد…».
It’s good to be bad
«من الجيد أن تكون شريرًا»، تلك العبارة الرنانة التي قالها البريطاني، “بن كينجسلي” Ben Kingsley الذي يلقبه البعض بالأب الروحي لأشرار هوليوود، وذلك في الإعلان الترويجي للسيارة الرياضية Jaguar F Type الممنوع من العرض.
فهذا الإعلان المعرف باسم (الموعد) The Rendezvous، والذي يشاركه في بطولته اثنان من أشهر (الأشرار) البريطانيين، هما (توم هيدليستون) Tom Hiddleston، و(مارك سترونج) Mark Strong، يفتتحه كينجسلي بسؤال استفزازي:
«هل سبق لك ملاحظة كيف أن أدوار الشر في هوليوود يؤديها البريطانيون؟».
ثم يقوم بتعديد مُميزات الشرير الإنجليزي عن غيره؛ فهو هادئ، يقظ، وينضح بالقوة. ثم يُسقط الإعلانُ الرسالة على السيارة جاجوار المعلَن عنها بمحركها القوي وتصميمها العصري الجذاب، فهذا تمامًا ما تتصفُ به … وبعد أن يؤدي الأشرار رسالتهم الإغرائية ببراعة، يختم كينجسلي الإعلان بقوله:
«نعم؛ إنه من الجيد أن تكون شريرًا».
علمًا بأن سبب منع الإعلان من العرض ليس هذه الرسالة، ولكن السبب هو تحريض الإعلان على القيادة الرَّعناء في شوارع المدينة!
خلاصة القول: هو أننا نُواجه ظاهرة يصفها الكاتب “جراهام جونستون” بقوله: «نحن اليوم أمام ظاهرة عكسية، حيث صار أبطال الحداثة هم أشرارَ ما بعد الحداثة، وأشرار الحداثة صاروا هم أبطال ما بعد الحداثة».
وما يتوجب علينا هو البحث عن أسباب أكثر جلاءً ووضوحًا لتفسير هذه الظاهرة.
المزيد من الأمثلة والتفاصيل المثيرة تقرأها في كتاب الأشرار؛ كيف أصبحنا نحب أشرار السينما؟