في حادث غريب من نوعه، نشر موقع الإندبندنت الإنجليزي في فبراير من عام ٢٠١٩ خبرًا عن حادث اغتصاب ارتكبه طفلٌ يبلغ من العمر ١٢ سنة، لأخته البالغة من العمر ٦ سنوات، بغرض محاكاة مشهد ما في لعبة GTA الإلكترونية المعروفة.
مما ذكره الخبر أنها لم تكن الواقعة الأولى التي تتعرض لها الفتاة للاغتصاب من أخيها، وأنه في أثناء المحاكمة، تعهَّد الطفلُ بعدم تكرار هذا الفعل مستقبلًا مادام عرف أنه خطأ كبير!
هذا الخبر المزعج لا يعكس مدى خطورة غياب الأبوين عن متابعة وتقويم الأبناء وحسْب؛ بل يعكس ملامح أخرى للمسألة بالغة الخطورة.
فبدايةً، يعكس الخبرُ أهمية العناية بالتصنيفات العمرية لأي منتج ترفيهي، سواء أكان لعبة أم فيلمَ رسومٍ متحركة -والذي هو محور حديثنا- أم أي شيء من هذا القبيل، فهذه التصنيفات لم تُقدَّر اعتباطًا؛ بل بناءً على ما تحتويه هذه المنتجات، ومدى ملاءمتها للفئة العمرية المشار إليها. ويمكن تعرُّفُ تفاصيل هذه التصنيفات بسهولة عن طريق محركات البحث على الإنترنت، مع الوضع في الاعتبار -وهذا هو الأهم- أن هذه التصنيفات لا تعبِّر بالضرورة عن سلامة المحتوى؛ بل يجب علينا إخضاعها هي الأخرى إلى معاييرنا الدينية والأخلاقية.
وإذا تجاوزنا الحديث عن بعض الآثار السلبية المترتبة على هذه الأعمال والمنتجات؛ كتسويغ العنف والأفعال الشريرة، وحب الشر، وما إلى ذلك، مما ألقينا عليه الضوء في مواطنَ أخرى، ومما أفاض وأجاد فيه الكثيرون؛ فإنه من المستقرِّ بداهةً والمسلَّم به أن شركات الترفيه الضخمة -كشركة ديزني المتوحشة العابرة للقارات- لا تضخ ملياراتها في هذه الصناعة لمجرد الترفيه وجنْي المزيد من المال وحسْب؛ بل هذه -بقناعة تامة منها أو بإيعاز من غيرها من ذوي النفوذ، خضوعًا لعقيدتها البراجماتية- تحمل على عاتقها تشكيل وعي وشخصية النشء الصغار على مر الأجيال، من خلال المناورات الذهنية والرسائل الخفية للتأثير على لاوعيه غير المُدرِك للفرق بين الحقيقة والخيال، بما يتناسب مع سمات كل عصر وأجندته، وبوجه خاص الجيل الألفيني التائه في هذا العصر ما بعد الحداثي المائع، الذي يلهث فيه الأبوان ليل نهار خلف المادة، ولا شيء يُلهي هؤلاء الصغار ويملأ أدمغتهم سوى الشاشات الذكية المفتوحة على عالم متمرِّد يُهين كل ما هو تقليدي، وبالتالي يَسْخر من كل أصل أو ثابت تربينا عليه وتوارثناه جيلاً بعد جيل، وذلك تحت مِظلة “الحرية” البراقة.
أمثلة خطيرة.. معتقدات وثنية:
ومن ذلك إفساح المجال لاستعراض المعتقدات الوثنية، كالاعتقاد في السحر وقوة الطبيعة والاتحاد معها. ونضرب لذلك مثالًا بفيلم Raya and the last dragon الصادر عن ديزني عام ٢٠٢١، وكذلك الجزء الثاني من فيلم Frozen الصادر عام ٢٠١٩، واللذين يتخذان من هذه الفكرة إطارًا عامًّا لهما، إضافةً إلى توجيه الرسالة بالثقة في أصحاب هذه الاعتقادات.. ويتضح ذلك جليًّا عند اكتشاف الأميرة إلسا -في فيلم فروزن- أن جَدَّها لأبيها هو السبب في غضب الطبيعة وعقابها لشعب أمها الذي يُمارس هذه الاعتقادات، وذلك لرفض جَدِّها الوثوقَ بهم لامتلاكهم قُوًى سحريةً خارقةً تصنع منهم وحوشًا وأشرارًا، فقالت إلسا في غضب: Fear is what can’t be trusted.. واتضح لاحقًا من الأحداث أنها مُحِقة وأنهم كانوا قومًا أخيارًا.
نتفق أنَّ العالم الخيالي جميلٌ وممتعٌ، والمساحة الإبداعية فيه شاسعة، لكنَّ ربْطَه باعتقادات وثنية يتحقق فيها الإشراك بالله في ألوهيته وربوبيته، فهذا أمرٌ في غاية الخطورة، خاصَّةً عند تقديمه لأطفال صغار اعتقادهم ما يزال في طور التشكيل.
حتى وإن كانت معامل الدبلجة العربية لا تزال تجتهد في مقاومة هذه الأفكار -الأمر يُذكرني بمسألة قديمة أشار إليها شيخ الترجمة أنيس عبيد في قوله: “على المترجم أن يأخذ حذره دائمًا، وأن يتجنب الألفاظ الشائكة أدبيًّا وسياسيًّا، وأن يكون رقيبًا ثانيًا على بعض الأفلام”-، لكنْ أخشى بأن هذا لو لم يكن متوازيًا مع توعية جريئة للأبناء -لا سيما مع غلبة التعليم باللغة الإنجليزية- أن تَخورَ القوى أمام هذا المَد الشديد.
العلاقات بين الجنسين:
مثال آخر لا يقل خطورة، عن حُرية العلاقة بين الشباب والفتيات خارج الإطار الشرعي الرسمي، وهو كذلك في الجزء الثاني من فيلم “فروزن”، حيث يظهر كريستوف وصديقه حيوان الرنّة وهما يعيشان مع الأميرتين “إلسا” و”آنا” في قصرهما بلا أي علاقة رسمية واضحة، اللهم إلا بعض الإعجاب والحب بينه وبين “آنا” يتبادلانهما من الجزء الأول من الفيلم، ويسعى “كريستوف” جاهدًا حتى آخر الفيلم أن يتجرأ ويقدم لها Marriage Proposal (أي: يجثو على ركبته ويفاجئها بخاتم الزواج)، كما ظهرت إحدى هذه المحاولات الفاشلة في أول الفيلم وهو يقيم معها في القصر.
ويمكنك استنتاج ومعاينة كيف يتم ترسيخ مفهوم العلاقة قبل الزواج عن عمْد في أذهان ملايين الفتيات المفتونات بـ”إلسا” و”آنا”؛ بل وفي أذهان الصِّبْية كذلك، بأن هذا النمط من الحياة حلوٌ وأُسطوريٌّ.
التعايش مع الشذوذ:
ولعل القضية التي تَحظى بالعناية الكبرى في العَقد الأخير، هي قضية التعايش ونبذ التمييز ضد الآخر، والتي على الرغم من جمال ظاهرها وبريقه -بل وبعض مكتسباتها الظاهرة كذلك- إلا أنها تحمل في ثناياها أهدفًا سلبية خطيرة.
ومن ذلك: أن هذا التعايش المنشود يخضع لقواعدَ عامةٍ لا تجعلك -كمواطن مسلم في مجتمع ديمقراطي غربي- مقبولًا مرضيًّا عنك إلا إذا خلعت على أعتابه بعضًا من مبادئك وثوابتك التي لا تَقبل الانصهار في هذه البوتقة العالمية. والمبني على هذا الانصهار هو التزامك بتقبُّل كل ما هو مختلف عنك، حتى لو عرفت من الشَّارِعِ -جل شأنه- بكلام قطعي ثابت، أن هذا منكر لا ينبغي قبوله أو التكيف معه.
ومثال ذلك: تقبُّل العلاقات الجنسية الشاذة، أو ما يقال عنها بصيغة إعلامية مخففة “المثلية”.. فمادمت -أيها المسلم- ارتضيت الدخول إلى هذا الفردوس الأرضي، فعليك أن تخضع لهذه القواعد، وأن تتعايش مع الجميع، وإلا سيكون جزاؤك الطردَ والحرمانَ، وستَلقى مصير “مُنْكِري المَحرَقة”.
ولقد صار لزامًا على الأفلام أن تُقحِم شخصيةً “شاذة/ مثليةً” في العمل، وأن تأخذ دورًا إيجابيًّا مُلهِمًا، على عكس الماضي حينما كانت تُقدَّم هذه الشخصيةُ -إن تم تقديمها- في إطار سلبي ساخر. ومثالُ ذلك من أفلام ديزني، ذات التصنيف العائلي العام، فيلمَا الـ”لايف أكشن” -أي إعادة إنتاج لأفلام قديمة وبشخصيات حقيقية- وهما فيلم الجميلة والوحش Beauty & the beast ٢٠١٧ وفيلم Cruella ٢٠٢١.. وأما عن الأعمال التي تبثها مِنَصَّتَا “نِتفليكس” أو “كارتون نِتوورك”، فحدِّثْ ولا حرجَ.
ويُعَدُّ فيلم Luca لديزني-بيكسار ٢٠٢١ نقلةً نوعيةً جديرةً بالذكر؛ فعلى الرغم من الطرافة والبهجة التي يَبُثها الفيلم، والمعاني الجميلة التي تنتصر فيها ديزني لمن أسْمتهم “المستضعفين”؛ أي: المنبوذين الكريهين الموسومين بالوحوش، والذين هم في الحقيقة أطيب خلق الله، الذين لا يَسعَون لشيء سوى نيل الحرية والعيش في سلام وأمان من تهديد بعض البشر الأشرار والمشوَّهين فكريًّا، كما تقول الجدَّة في النهاية: “بعض الناس لن يتقبلوهم مطلقًا، ولكن البعض الآخر سيتقبلهم، ويبدو أنَّ “لوكا” يعرف كيف يجد هؤلاء.. فالفيلم كما يتبين مليء بالشعارات والعبارات الرائقة التي تُلهب المشاعر، لكنَّ الغرض منها هو الإسقاط كالعادة على مجتمع الـ”ميــم” أو الشواذ جنسيًّا، ولا شيء سوى ذلك..
وهذا من الممكن للمشاهد استشعاره في العلاقة غير المريحة بين الصديقين “لوكا” و”ألبرتو”، وفي دور السيدتين العجوزين اللتين أخفيتا حقيقتيهما المثلية حتى آخر الفيلم، وهو الأمر الذي جزمت به مجلة Business Insider حينما صرحت في الرابع من يوليو بأن الكثير ممن شاهدوا الفيلم لاحظوا العلاقة الشاذة المبطنة في الصديقين، وقالت بأن ديزني-بيكسار لم تكن جريئة بما يكفي للالتزام كاملًا بإجلاء الصورة في فيلمها “الشاذ” الأول من نوعه.
وصراحة.. كان الله في عوننا، وفي عون الأجيال الجديدة، وكل المستضعفين بحق!
ما الحل؟!
لا أعتقد أن المنع هو الحل الناجع للحد من هذا البلاء، في زمان أصبح كل شيء فيه في المتناول، ولكن أرى أن المواجهة الجادة هي الأسلوب الأفضل رغم صعوبته؛ فبناء علاقة سوية مع الأبناء، وإقامة حوارات مفتوحة، وتسديد الملاحظات بحكمة وفق مناسبتها لكل سن دون غيره؛ هذه الأمور تساهم في تقوية الجهاز المناعي لدى الأبناء، وتعزيز الرقابة الذاتية لديهم وتقوية ارتباطها بالرقابة الإلهية، ومع تحجيم التعرض قدر الإمكان لهذه المؤثرات الضارة يكون ذلك بمثابة التطعيم الوقائي للأبناء، الذي يساهم في تكوين ملكة التمييز بين الخطأ والصواب لديهم.. وقبل ذلك كله؛ التوجه بالدعاء إلى الله بالحفظ والوقاية، من شر الفتن، ما ظهَر منها وما بطَن.
ولعله من المناسب أن نتعرض في مقال لاحق -بإذن الله- عن معايير اختيار أفلام الرسوم المتحركة المناسبة للطفل، وكيف يمكن للوالدين أو المربين انتقاء المواد التي لا تخدش عقيدة ولا فكر ولا حياء الناشئة، لاسيما فئة الطفولة المبكرة، التي يتشكل فيها الوعي والشخصية بدرجة كبيرة.
نشر المقال في مجلة رواحل في ١٩ سبتمبر ٢٠١٢