ثقافة المربي

ثقافة المربّي: تجربة وأربع فوائد

لا أزعم أني طالب علم بالمعنى الدارج، ولا أدعي شرف الانتساب لطلب العلم من الأساس؛ إنما كانت لي تجربة أحببت أن أشارككم إياها..

ففي بداية سلوك الطريق إلى الله، وفقني الله -تعالى- بلطفه وكرمه لصحبةِ خيرٍ معينةٍ على الطاعة، وقد قيد الله -تعالى- لهذه الصحبة شيخًا فاضلًا، اجتمعت عليه القلوب والعقول.

وكان مما أوصى به هو ضرورةُ طلب العلم الشرعي، فحثَّنا كثيرا، وبيّن لنا فضله وأهميته، وكيف أنه فرضُ عينٍ على كل مسلم، وبيَّن لنا فضل العالم على العابد، ومسؤوليته الكبيرة أمام الأسرة والمجتمع؛ بل أمام العالم بأسره.

حثنا الشيخ على ضرورة الاهتمام بكتاب الله -تعالى- أولا؛ حفظا وأحكاما ودراية، والاهتمام بكلام سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- وإحياء سنته، وتمييز صحيح ما رُوي عنه من ضعيفه.. وقبل ذلك تصحيح النية وسلامة الاعتقاد، وتعلم أحكام الفقه… إلى التوصية بأن هذا العلم في ذاته وسيلة وليس غاية، وأن الغرض منه العمل به وتبليغه للناس: «بلّغوا عني ولو آية» [رواه البخاري]، ومن ثَمَّ تكون الدعوة إلى الله على علم وبصيرة وبإخلاص: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].

بلغ الشيخ بهمتنا عنان السماء، وهيَّأ نفوسنا لتقبُّل المهمة؛ ليبين لنا بعد ذلك طبيعة الرحلة إلى طلب العلم، وكيف كان السلف يُنفقون الغالي والنفيس، ويواجهون الصعاب والبلاء.. ثم بيَّن لنا كيف يتدرج طالب العلم بين المتون والشروح، ويتنقل بين المجالس، والآداب التي ينبغي أن يتحلى بها.. إلى أن يرتقي بعد السنوات الطوال إلى درجة العالم الذي يفتي الناس في الأمور الخاصة والعامة.

استعنا بالله -تعالى- وقررنا سلوك الطريق، وبدأنا في التزام حلقات العلم بمختلف فنونها.. وكان أكثر ما يشغل بالي حينها: في أي الفنون سأتخصص في المستقبل القريب أو البعيد؟

مع الوقت بدا لي أمرٌ؛ وهو أن على رغم حبي للمجالس وتوقيرها، إلا أني كنت ضعيف التحصيل، سيئ الحفظ، لا أستطيع بحال حفظ المتون، فكنت أدون الفوائد التي أستفادها وحسْبُ.. ومع بداية حبي للكتب وللقراءة، ظهر لي شغف واهتمام بمسائلَ أُخر، وجدتها في القراءة الحرة غير المقيدة.. وجدتها في الاطلاع والبحث في عالم الأفكار ونشأتها، والأيديولوجيات وتأثيرها..

نمت صداقة بيني وبين بعض الكتب، غير الكتب التي نجتمع عليها في مجالس العلم.. وكثيرا حينما كان يأتي موعد المذاكرة كنت أتفلت وأقلص وقت المذاكرة لأقرأ كتابًا آخرَ.. وقبل أن يَحين موعد الدرس كنت أسأل نفسي متحيرا: هل أذهب اليومَ؟ أم أجعل أحد الإخوة يُسجل الدرس لي؟ وأجلس لقراءة الكتاب الذي بين يدي؟ غالبُ أمري أني لم أكن أتأخر عن حضور الدروس، ولكني كنت أصطحب معي الكتابَ لأقرأه في الطريق ذهابا وإيابا.

مع استمرار الحال على هذا، ظهر لي إشكالان: الأول هو: أن هذا النموذج غيرَ المقيد الذي مالت إليه نفسي لم يكن يجد -إلا قليلًا- مَن يشجعه في دوائر العلم التقليدية، حيث الدراسة النظامية مقدمة ولها الأولوية.. غير ذلك فإن هذه القراءة الحرة تعتبر نافلة من القول، ومطلوبة فقط لتقويم الجانب الثقافي للمربي والداعية، مع ضرورة أخذ بعض المحاذير ووضع بعض القيود، والتي أظهرت لي الإشكال الآخر؛ وهو: أن عادة من لهم قراءات حرة من طلبة العلم، لا سيما في المسائل الفكرية المعاصرة، لا تخرج قراءتهم عن المصنفات (الكتب والمقالات والمحاضرات) التي تصدر عن شيوخهم المعتبرين، أو من يقتربون منهم فكريا، واعتمادها على أنها الكتب الأصول في هذا الباب، حتى إن لم يكن لصاحبها تخصص وإلمام بهذه المسائل، أو أن كتاباته ومحاضراته ما هي إلا نقل أو اقتباس من المصنفات المشابهة التي لا تخرج عن نفس الدائرة الفكرية، دون الاطلاع على كلام المروي عنهم بشكل مباشر وصحيح في سياقه وسباقه ولحاقه.. فتجد أن السمة البارزة لكثير من هذه الكتابات التأخر والسطحية، بل وافتقاد التصور الصحيح في أحوال كثيرة، وعلو نبرة الجرح والتعديل وإقامة الحجج والبراهين، بلا نقد موضوعي أو استيعاب لمركّب الظروف الزمنية والاجتماعية والسياسية المحيطة.. وقد تكون هناك عوامل أخرى لهذا النتاج الفكري؛ إما بسبب محاذير وقيود فكرية موضوعة سابقا على بعض الكتب أو كتّابها، أو بسبب ضعف في دراسة اللغات الأجنبية، أو بسبب الانشغال والتخصص بأبواب العلم الأخرى…

هذه (الكلاسيكيات الفكرية) أصابت وعينا في مقتل، وأورثتنا بعض الجمود، بل والكبر والافتخار بالانتباه إلى ما لم ينتبه إليه أحدٌ من العالمين، لما يخطط له الشرق والغرب ويتآمر عليه.. الأمر الذي يتبين لنا سذاجته ومدى سطحيته في كثير من الأحوال، وكما قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: (وإذا تكلم المرء في غير فنه؛ أتى بهذه العجائب).

لا أقصد بهذا النموذج التعميم، وإلا فإن هناك -لا سيما في السنوات الأخيرة- نماذج كثيرة متفتحة ونافعة تجمع بين الخيرين؛ جانب التأصيل والعلم الشرعي، وجانب الثقافة العامة الواعية والموضوعية، وإنما قصدت بالحديث النموذج الأشهر في دائرة طلب العلم الشرعي، والذي كان لي معه تجربة مباشرة، والتي خلُصت منها بأربع فوائد:

1- التأسيس الشرعي الصحيح وبناء الثوابت هو أمر ضروري وهام جدا في بداية الطريق؛ لأن هذه الثوابت هي التي سنركن إليها بعد ذلك في أي مستجدات أو إشكالات أو نوازل.

2- أنَّ «كل ميسر لما خلق له»، ومفهوم طلب العلم أوسع بكثير مما يتم تصويره عادة، فليس بالضرورة الإلزام بالاستمرار في هذا النسق التقليدي، وحسب كل فرد منه (الحد الأدنى الذي لا يسع المسلمَ جهلُه)؛ لتصحيح الاعتقاد والعبادات والسلوك، ثم بعد ذلك الانطلاق والبذل والنفع في أي الأبواب الدينية والدنيوية، مع الإخلاص وتصحيح النية وحسن اتباع السّنّة: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]، (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]، فإن وجد نفسَه تميل إلى طلب العلم الشرعي ويُحسن استخدام أدواته بما يخدم واقعنا المعاصر؛ فذلك فضل كبير.. وإن لم يجد؛ فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها؛ لأن إصراره قد يفسد من حيث أراد الإصلاح.

3- في ظل التحديات الضخمة التي يُواجهها العالم الإسلامي المعاصر، والعولمة الثقافية والانفتاح، تجد أنه من الضروري الوعي والاطلاع، والسماع من القوم لا عنهم، والارتقاء بالمستوى الثقافي والفكري للمربي والداعية إلى الله، مع تشجيع هذا الأمر، والترغيب فيه وعدم التقليل من شأنه، فالثقافة من الدين، كما قال شيخ العربية أبو فهر محمود شاكر -رحمه الله-: (رأس كل ثقافة هو الدين بمعناه العام).. ويُقال في تعريف الثقافة: (تعلّمْ شيئا عن كل شيء؛ تُصبح مثقفا.. وتعلّم كل شيء عن شيء؛ تصبح عالما)، مع التحصن بالقاعدة الأولى السابقة الذكر؛ لكي تستقيم الأمور على صراط الله المستقيم.

4- احترام التخصص، ورفع يد الهيمنة واحتكار الملكية الفكرية عن كل نواحي العلوم، لا سيما غير الشرعية منها، فالحق مقبول من أيٍّ مَن كان، والحكمة ضالّة المؤمن، فحيث وجدها؛ فهو أحق بها.. فلقد صدّق الله -تعالى- على قول ملكة سبأ -وهي على الكفر حينها- عندما قالت: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً)، فقال -عز وجل-: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 34]، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة -رضي الله عنه-، عن الشيطان حينما نصحه بقراءة آية الكرسي قبل النوم: «صدقكَ، وهو كَذوب» [رواه البخاري]، بل قال -صلى الله عليه وسلم- حينما مرّ على قوم يلقحون النخل: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» [رواه مسلم].. وليكن الضابطُ عندنا في القبول والرفض هو -أيضًا- النقطةَ الأولى من هذه الأربع.. فهي بمثابة القواعد من البنيان، وما لا أصل له فمهدوم.


نشر بمجلة رواحل التربوية – العدد الثاني – جمادى الأولى 1438 – فبراير 2017

اقرأ أيضًا: ماذا خسرت الدعوة بنقص أعمالها الأدبية؟

3 أفكار عن “ثقافة المربّي: تجربة وأربع فوائد”

التعليقات مغلقة.