شتات اليهود - يهود الشتات - دياسبورا - أرض الميعاد

قصة اليهود من الشتات إلى الشتات

كان العبرانيون جزءًا من جماعات سامية ضخمة تتحرك في الشرق الأدنى القديم، ابتداءً من الألف الثاني قبل الميلاد… ولقد شهدت مرحلة الإمبراطوريات الكبرى، البابلية والآشورية ثم الفارسية واليونانية والرومانية، بدايات الهجرة التي تعاظمت بالتدريج حتى وصلت ذروتها مع نهاية الألف الأول قبل الميلاد… وكان ينتقل بعض أعضاء الجماعات اليهودية من وطن إلى آخر بحثًا عن الرزق ولتحسين المستوى المعيشي بصفة عامة، أو لأسباب أخرى مثل التهجير والطرد أو الاضطهاد أحيانًا… وقد اتسمت حياة العبرانيين في عصر الآباء (منذ عام ٢٠٠٠ق.م) بالتنقل البدوي من بلد إلى آخر وبالبقاء على حواف المدن أو على طرق التجارة. وفي هذه المرحلة، استوطنت بعض العناصر العبرانية أرض كنعان [فلسطين] وفي مصر دون أن تضرب جذورًا في أي منهما. وقد خرج العبرانيون من مصر أو هاجروا منها (عام ١٦٤٥ق.م) ليبدأوا فترة أخرى من التجوال في سيناء انتهت بالتغلغل العبراني في كنعان (عام ١١٨٩ق.م) الذي أعقبته فترة من الاستقرار النسبي بعد قيام اتحاد القبائل العبرانية في شكل المملكة العبرانية المتحدة ثم المملكتين العبرانيتين: المملكة الشمالية [يسرائيل] والمملكة الجنوبية [يهودا]. وقد انتهت هذه المرحلة بالتهجير الآشوري [من يسرائيل] ثم التهجير البابلي [من يهودا].

يؤكد على هذه الحقيقة الباحث الأمريكي إيان لوستك بقوله: «كان عدد كبير من اليهود يقيم خارج أرض إسرائيل منذ أمد بعيد يسبق قضاء الرومان على استقلال اليهود في فلسطين وقتلهم أو طردهم معظم السكان اليهود المقيمين فيها».

اصطفاء مشروط لبني إسرائيل:

لقد امتن الله على بني إسرائيل واصطفاهم وفضلهم على العالمين، وجعل فيهم الكتاب والحكم والنبوة. ولكنه كان اصطفاءً مشروطًا، إذ قال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) [المائدة: ١٢)].

ولكنهم ما رعوا فضل الله تعالى عليهم حق رعايته، وكان (مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران: ١١٠]، بل وذكروا في تفسيراتهم المتواترة أن الاختيار غير مشروط ولا سبب له، فهو من إرادة الإله التي لا ينبغي أن يتساءل عنها أي بشر.

ولقد ترسخ هذا الاعتقاد في وجدانهم، حتى إنهم «في تعبيراتهم الشعرية يرون أن الرب قد اتخذ أمتهم عشيقة له، بل إنه تزوجها زواجًا أبديًا، حتى إنها إذا خانته ودنَّست شرف العلاقة التي بينها وبينه، لم يطلِّقها كما يفعل أحقر مخلوق من البشر، ولكنه يكتفي بأن يغضب ثم يرضى، وأن يعاقب ثم يصفح. فهي الأمة الحبيبة المعشوقة المدللة التي تعلم أن الرب لن يجرؤ يومًا ما على قتلها مهما أجرمت!».

وعد أولاهما:

قال الله سبحانه: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا. ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا. إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا) [الإسراء: ٤-٧].

وكان (وعد أولاهما) في عام ٥٨٦ق.م، عندما قام الطاغية البابلي نبوخذنصر بغزو المملكة الجنوبية (يهودا) وتدمير عاصمتها القدس وهدم المسجد الأقصى (الهيكل)، وذلك -باختصار- بسبب تحالف حاكمها صدقياهو مع المصريين ومحاولته الاستقلال عن بابل.

وقد استمرت فترة التهجير البابلي حوالى خمسين عامًا، وكان مركز المهجَّرين الأساسي (تل أبيب) في العراق.

وظلت هذه الجماعة العبرانية في بابل إلى أن هزم قورش الأخميني الفارسي [٥٢٩ – ٥٧٦/٥٩٠ق.م.] الإمبراطورية البابلية وسمح لهم بالعودة عام ٥٣٨ق.م للأسباب السياسية نفسها التي نُفوا من أجلها، أي ضرورة توطين عنصر سكاني موالٍ له في فلسطين.

وأصدر قورش أمره بإعادة بناء الهيكل على أسسه القديمة، وأمر كذلك أن تُرد آنية الذهب والفضة التي أخرجها نبوخذنصر من الهيكل وجاء بها إلى بابل [عزرا ٦: ٣-٥] ولذا تحول قورش في الوجدان الديني اليهودي إلى المخلِّص، بل إلى كونه المسيح المنتظر [أشعياء ٤٥: ١-٧].

وللعلم أنه قد رفض كثير من اليهود، وخصوصًا الأثرياء منهم، العودة إلى فلسطين بعد مرسوم قورش، حيث وجدوا أنفسهم في بابل بعيدين عن اضطهاد الإمبراطورية الرومانية الشرقية، واكتفوا بدفع مساعدات مالية للعائدين إلى فلسطين.

ورسولا إلى بني إسرائيل:

في ظل الحكم الروماني للقدس أرسل الله تعالى آخر رسله إلى بني إسرائيل خاصة، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف: ٦]

ولكن اشتد ارتياب اليهود وغضبهم عندما شاهدوه يكتسح أمامه كل ما يعتزون به من ضمانات؛ إذ يُعلِّم الناس أن الله ليس من المساومين، وأن ليس هناك شعب مختار، وأن الله هو المحب لكل الأحياء، وأنه لا يختص البعض بالرعايات دون بعض.

(فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ) [الصف: ١٤]، وتآمرت الطائفة الكافرة على قتله، خاصة بعد أن وبخهم وأنبأهم بأن الله سيدمر لهم مدينتهم وهيكلهم بعد ما اتخذوه سوقًا للصرافة والتعامل بالربا، وملهى لسباق الحمام، ومعبدًا للأوثان: «ودخل يسوع إلى هيكل الله، وأخرج جميع الذين يبيعون ويشترون في (الهيكل)، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام، وقال لهم: مكتوب بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص» [متى ٢١: ١٢-١٣].

ولكنه -عليه السلام- نبأهم بخراب (الهيكل)، ولم ينبئهم بإعادة بنائه مرة أخرى، كما فعل أنبياؤهم السابقون: «فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل فقال لهم يسوع: أما تنظرون جميع هذه. الحق أقول لكم: إنه لا يُترك ههنا حجر على حجر لا يُنقض!» [متى ٢٤: ١-٢].

يقول الدكتور عبدالعزيز مصطفى كامل: «تأمل عبارة عيسى -عليه السلام- في الإنجيل: “لا يُترك ههنا حجر على حجر لا يُنقض”، وعبارة القرآن: (وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا)، واستنتج لماذا داخ اليهود بعد حفريات طويلة في العثور على أي أثر للمسجد باستثناء حائط البراق الذي أبقى الله تعالى عليه ليكون آية باقية على رحلة الإسراء التي نسخت حق اليهود في الأرض المقدسة».

وبعد أن تآمر اليهود لدى الرومان الوثنيين على قتله، ورفعه الله تعالى إليه، أنزل اليهود والرومان بأتباع المسيح -عليه السلام- أشد ألوان العذاب والاضطهاد، ولعل من أبشع حركات الاضطهاد التي عاناها المسيحيون في القرن الأول تلك التي أنزلها بهم نيرون الطاغية (٣٧-٦٨م)، فيروى أنه ألقى بعضهم للوحوش الضارية تنهش أجسامهم، وأمر فطليت أجسام بعضهم بالقار وأشعلت لتكون مصابيح بعض الاحتفالات التي يقيمها نيرون في حدائق قصره.

وعد الآخرة:

وحينما جاء (وعد الآخرة)، تحقيقًا لنبوءة المسيح -عليه السلام- وذلك في عام ٧٠م، غزا الإمبراطور الروماني تيطس (٣٩-٨١م) بجيوشه مدينة القدس على أثر ثورة قام بها اليهود، ودمر المعبد اليهودي تدميرًا، وأحرق المدينة بأكملها، وقتل منهم أعدادًا كبيرة، وهرب من نجا منهم من القتل ليتفرقوا ويتشتتوا في أنحاء متفرقة من الأرض.

وتبعه الإمبراطور هادريانوس (٧٦-١٣٨م)، والذي أزال في عام ١٣٠م معالم المدينة ومعالم الأقصى تمامًا، وأقام مكانه معبدًا وثنيًا للإله چوپيتر رب الآلهة الرومانية. كما قام بإبادة البقية الباقية من يهود حيث كان يراهم مصدرًا للثورات والإزعاج المتكرر.

ومن حين تدمير الأقصى لم يعد يربط اليهود أية سلطة مركزية، حيث تفرقوا وتشتتوا في أرجاء الأرض، كما أخبر ربنا تبارك وتعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا) [الأعراف: ١٦٨].

يهود الشتات (الدياسپورا – Diaspora)

هاجر بعض اليهود إلى الجزيرة العربية، فيذكر المستشرق اليهودي إسرائيل ولفنسون أبو ذؤيب (١٨٩٩-١٩٨٠): «تذكر لنا صحف العهد القديم من أخبار بني إسرائيل أن بلاد طور سيناء وشمال الجزيرة بوجه عام كانت ملجأ يقصد إليه كثير من بني إسرائيل الذين كانوا يفرون من وجه الملوك والحكام الظالمين، ثم في عهد الملك بختنصر فإنه حين غزا أورشليم قصدت جموع من اليهود أرض الجزيرة».

ولقد قصد الكثير منهم نواحي خيبر والمدينة (يثرب) وما جاورها، وذلك كما يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- “لما كانوا وعدوا به من ظهور رسول الله، وكانوا يقاتلون المشركين من العرب فيستنصرون عليهم بالإيمان برسول الله قبل ظهوره، ويعدونهم بأنه سيخرج نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وسلم- سبقهم إليه من كانوا يحاربونهم من العرب، فحملهم الحسد والبغي على الكفر به وتكذيبه”.

وإلى أوروبا، كانت توجد ثلاثة خطوط أساسية للهجرة: من فلسطين إلى جنوب إيطاليا ومنها عبر جبال الألپ إلى فرنسا وألمانيا، ومن الإمبراطورية الرومانية الشرقية (بيزنطة) عبر وادي الدانوب إلى وسط أوروپا، ومن العراق ومصر عبر المغرب إلى إسپانيا. وهكذا انتقلت الكثافة السكانية اليهودية (بين عامي ٥٠٠ق.م. – ١٠٠٠م) من الشرق الأوسط إلى أوروپا.

اقرأ أيضًا: كيف تشكلت الصهيونية المسيحية قبل الصهيونية اليهودية.

————

مستفاد من كتاب: حصان طروادة؛ الغارة الفكرية على الديارة السنّية.

 

فيديو: كيف ينظر جيل ما بعد ١١ سبتمبر للأحداث؟