سجائر لاكي سترايك - إدوارد بيرنايز -lucky strike - edward bernays

لاكي سترايك؛ السيجارة التي أوقدت شعلة الحرية

كان ذلك في عشرينيات القرن الماضي، حينما خرجت مجموعة من الفتيات إلى شوارع نيويورك يوم احتفالية Easter Sunday Parade، وقمن في لحظة محددة بإشعال سجائر “لاكي سترايك”، وصدر مانشيت بعض الصحف حينها معلنًا: “السيدات يشعلن شعلات الحرية.”

لم يكن هذا من قبيل المصادفة.. بل كان بإيعاز وتخطيط من إدوارد بيرنيز، بالاتفاق مع جورج واشنطون هيلز، رئيس الشركة الأمريكية للتبغ..

حيث اتفق مع مجموعة من الفتيات Models على الخروج في استعراض يجول شوارع المدينة, وأخبر في الوقت ذاته الصحافة بأن هناك مجموعة من الناشطات من جمعية حقوق المرأة سيقمن بإيقاد “شعلات الحرية”.. وعندما حان الوقت، واجتمع الصحفيون المتعطشون لتغطية الحدث، قامت الفتيات بإشعال السجائر، وقام الصحفيون بتصويرهن، وهنالك صدر الخبر المذكور، والذي كسر حاجز الرهبة في قلوب النساء من التدخين على الملأ في الأماكن العامة.

إدوارد بيرنيز (1891 – 1995) Edward Bernays
نمساوي أمريكي، ربطته قرابة مباشرة بعالم النفس الأشهر سيجموند فرويد (1856 – 1939)، ففرويد كان خاله وزوج عمته في نفس الوقت. أدرجت مجلة “لايف” الأمريكية بيرنيز ضمن أكثر 100 شخصية أمريكية مؤثرة في القرن العشرين، حيث يعتبر مؤسس ما يسمى بعلم “البروباجاندا” Propaganda [وهو باختصار: نشر المعلومات بطريقة موجهة أحادية المنظور وتوجيه مجموعة مركزة من الرسائل بهدف التأثير على آراء أو سلوك أكبر عدد من الأشخاص]، ولقد أطلق عليه لاحقا اسمًا آخر، فسماه علم العلاقات العامة Public Relations – PR، وذلك -حسب قوله- بسبب أن كلمة بروباجاندا أصبحت سيئة السمعة، وارتبطت في الأذهان بالحروب النفسية وما شابه.

إدوارد بيرنيز وزوجته

ولقد كان جوزيف جوبلز (1897 – 1945) وزير الدعاية السياسية في عهد أدولف هتلر و ألمانيا النازية، وصاحب القدرات الخطابية الهائلة -والمأثور عنه القول الشهير: أعطني إعلاما بلا ضمير، أعطك شعبا بلا وعي-، كان من أشد المعجبين والمتأثرين بأفكار وكتابات بيرنيز.

تأثر إدوارد بيرنيز بعدد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع، وكان أكثر تأثرا وولعا بأفكار خاله فرويد، الذي كان يرى أن “البشر أقل أخلاقية مما يعتقدون وأكثر فسوقا بكثير مما يمكنهم تخيله”، وأنهم -أي البشر- لا تصدر تصرفاتهم بطريقة واعية، وإنما بطريقة غير واعية تحركها الغرائز الأنانية والشهوات الفطرية.
بناء على هذه الفكرة الأساسية، ودمجًا مع أفكار الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جوستاف لوبون (1841 – 1931) عن كيفية التحكم في الجماهير، كان بيرنيز يرى أنه من الخطر الكبير إطلاق العنان للجماهير لأن يكون لها حرية التحكم في حياتها ومصائرها، ومن ثم لا بد لأن يوسّد الأمر وأن توضع الخيوط في يد عليا واعية تصنع القرار وتلزم الجماهير به، وهذه الرؤية التي تبناها بقوة بعد ذلك الكاتب والسياسي الأمريكي والتر ليبمان (1889 – 1973) Walter Lippmann أحدثت مأزقا أخلاقيا كبيرا في عصر الديمقراطية [حكم الشعب] والحريات.

Walter Lippmann

لم يكن الخروج من هذا المأزق بالأمر الهين، ولكنه حدث…
في إبريل عام 1939، عشية الكساد الكبير الذي أصاب الولايات المتحدة، عقد مجموعة من كبار رجال أعمال نيويورك مؤتمرًا اقتصاديًّا ضخمًا New York World’s Fair يعد الثاني من نوعه على مر التاريخ، عقد تحت شعار “عالم الغد” The World of Tomorrow
وفيه وضع بيرنيز لرجال الأعمال تصوره لهذا العالم الجديد، وتحت ما أطلق عليه اسم “العلاقات العامة”، أجرى تعديلا لطيفا على “الديمقراطية/ ديموكريسي”، حيث طرح ما أسماه “ديموكريسيتي” Democricity، والتي بها تمكن من إيهام الجماهير بقدرتهم على التحكم فعليا فيما يدور حولهم، في حين أن مقاليد التحكم تبقى بذكاء في قبضة صانعي القرار.
هذه الحالة من “ديمقرطية المستهلك” Consumer Democracy التي تعطي في ظاهرها الجمهور المستهلك الحق في تحديد واختيار احتياجاته بحرية، والحصول عليها بكامل الإرادة والرضا والاقتناع، هي التي تقدم بها بيرنيز لرجال الأعمال السوق الحر ولرجال السياسة على السواء، على أنها الحل السحري للخروج بالبلاد من هذه الأزمة الاقتصادية الطاحنة ولريادة العالم، ويرى البعض أن هذا المؤتمر ما كان إلا بروباجاندا صنعها بيرنيز لتمرير أفكاره واستثمارها.

الكساد الكبير في أمريكا

كان الأمر مقبولا لرجال الأعمال ومرحبا به، الذين كانوا يرون ضرورة “تحويل أمريكا من ثقافة الاحتياج إلى ثقافة الرغبة”، حيث أقنعهم بيرنيز بأن في إمكانهم تسويق وبيع منتجاتهم إلى الجماهير عن طريق ربطها مباشرة بأفكارهم ومشاعرهم غير الواعية وبمحركات غرائزهم، وتحويل رغباتهم إلى احتياجات أساسية لا غنى عنها، فهذه الفكرة تصنع لهم “المستهلك المثالي” العابد لرغباته.

ازدهرت الصناعة الأمريكية على إثر هذه الصفقة، وصار لبيرنيز عملاء كبار مميزون، مثل “جنرال إلكتريك” و”بروكتر أند جامبل” وغيرهما الكثير من أساطين الصناعة، وقام بالعديد من الحملات والإعلانات الفارقة في الثقافة الأمريكية، من أشهرها إقناعه للشعب الأمريكي بأن لحم الخنزير والبيض هو الإفطار الحقيقى لكل الأمريكيين.
وكان من أكثر نشاطات الدعاية السياسية تطرفًا لبيرنيز، جهوده المبذولة لإسقاط حكومة جواتيمالا المنتخبة ديمقراطيا، لصالح “الشركة المتحدة للفاكهة” متعددة الجنسيات United Fruit Company ولصالح الحكومة الأمريكية، فيما عرف بانقلاب جواتيمالا 1954 (أو جمهورية الموز كما سميت بعد ذلك) Banana Republic، حيث ركزت دعاية بيرنيز على وصم الرئيس الجواتيمالي جاكوبو أربنز (1913 – 1971) بالشيوعية في معظم الوسائل الإعلامية الكبرى في الولايات المتحدة.

Jacobo Arbenz

التقط علماء النفس التحليلي ما بدأه بيرنيز ونسجوا على منواله، في محاولات منهم لتطوير طرق إدارة العقل غير الواعي للجماهير، وكان من هؤلاء الرواد عالم النفس الأمريكي إرنست ديكتر (1907 – 1991)، والذي تذكر زوجته بأن ديكتر كان يرى أن تعبير المستهلك عن ذاته من خلال المنتجات والسلع -وحتى خطوط الموضة- هو أمر علاجي وصحي، ويحقق مجتمعا مستقرا ومواطنا ديمقراطيا سويا.

كان الأمر مقبولا في البداية ويحقق أرباحا كبيرة لقطاع الصناعة Mass Production، إلا أنه مع تطور علم النفس التحليلي، وانتشار جلسات العلاج النفسي الجماعية، والتي من شأنها تحرير الرغبات المكبوتة، والمصارحة والإفصاح عن الكثير مما تتحدث به النفس، صار الرأسماليون وخطوط إنتاجهم في مأزق؛ فلم يعد إنتاج موديل سيارة أو اثنين أو ثلاثة -على سبيل المثال- كافيا لتحقيق رغبات الجماهير الآخذة في التشعب والامتداد، ومن ثم صار الخوف من حلول شبح الكساد مجددا.

في هذه الفترة، برز على الساحة “هرم الاحتياجات” الذي شيّده أبراهام ماسلو (1908 – 1970) عالم النفس الأمريكي، والذي صاغ به نظرية فريدة ومتميزة في علم النفس، تدور حول ترتيب احتياجات الإنسان، وتتلخص هذه النظرية في الآتي:

Abraham Maslow

– يشعر الإنسان باحتياج لأشياء معينة، وهذا الاحتياج يؤثر على سلوكه، فالحاجات غير المشبعة تسبب توترًا لدى الفرد، فيسعى للبحث عن إشباع هذه الاحتياجات.
– تتدرج الاحتياجات في هرم يبدأ من القاعدة بالاحتياجات الأساسية اللازمة لبقاء الفرد، ثم تصعد في سُلم يعكس مدى أهمية الاحتياجات، وهي بالترتيب من الأسفل إلى أعلى: (الاحتياجات الفسيولوجية – احتياجات الأمان – الاحتياجات الاجتماعية – الحاجة للتقدير – الحاجة لتحقيق الذات).

هرم ماسلو

كان على الرأسماليين التغلب على هذه المشكلة عن طريق التوغل أكثر في عقول الجماهير، لاكتشاف ما يدور بداخلها، وكان عليهم التخلي عن فكرة ملاحظة أفعال الجماهير واقتراح المناسب فقط من خلال التصنيف التقليدي وفق المستوى الاجتماعي Social Class: A – B – C – D – E
والتوزيع الديمغرافي ودراسة عادات الشراء في المناسبات والمواسم والأعياد… والبحث أكثر في رغباتهم ودوافعهم النفسية.

وهذا ما قام به مركز الأبحاث والدراسات الأمريكي SRI International، والذي اعتمد على هرم ماسلو لمحاولة حصر وقياس احتياجات الجماهير المختلفة، عملا بقاعدة “ما يمكن قياسه يمكن إنجازه”، ولم يكن غرضه الاقتصار فقط على الحاجات الأساسية القابعة في قاعدة الهرم.
أعد المركز لذلك مجموعة ضخمة من الأسئلة التي طرحها على الجماهير في استطلاعات رأي كبيرة لمعرفة كيف يرى الناس أنفسهم، ولاستخراج قيمهم وأفكارهم التي لم يسبق أحد من قبل أن أثار تفكيرهم فيها بهذا الشكل المباشر.
كانت النتائج مذهلة، وأثارت إعجاب الجماهير، حتى أنهم طلبوا المزيد والمزيد من الأسئلة للإجابة عليها. وكان من أهم ما لاحظه الباحثون، هؤلاء الناس المتربعون على قمة الهرم، الساعون لتحقيق ذواتهم، والذين أدرك المركز أن في الإمكان أيضا احتواءهم وتضمينهم من خلال الإجابات التي أجابوها معبرين بها عن أنفسهم، من خلال توفير المنتجات الاستهلاكية التي تشبع هذه الأنماط السلوكية والرغبات الدفينة وتخلق الحاجة الأساسية لها. ولهؤلاء صاغ المركز مصطلحا جديدا هو “أنماط الحياة” Lifestyles، ولتصنيف هؤلاء الباحثين عن ذواتهم ولتحديد رغباتهم، ابتكر المركز نظام Values and Lifestyles – VALS، والذي تولدت منه اقتراحات وأفكار لا حصر لها، طالما أن التعبير عن النفس هو أمر غير محدود.

لم يكن هذا التحرر خيرا خالصا لرجال الاقتصادر الحر.. فكان من آثاره أيضا ظهور تيار معاكس مقاوم لهذا التيار. لم يأت هذا الشر من طبقة العمال المتوسطة التي تم احتواؤها وتلبية رغباتها، بل من فئات الشباب وطلبة الجامعات، التي تأثرت بشكل كبير بأفكار الفيلسوف الألماني هربرت ماركوز (1898 – 1979)، الذي عرف بتنظيره لليسار الراديكالي، ونقده الشديد للأنظمة القائمة والهيمنة الرأسمالية. آمن ماركوز بقوى ثورية جديدة ستظهر في المستقبل داخل المجتمع الحديث، وأنه سيتم التحرر الاجتماعي عن طريق الإشباع الجنسي. ونتج عن هذه الأفكار ظهور تيار ثقافي مضاد تمثل في الـ “هيبيز” Hippies، بهيئتهم وتحررهم الفكري والجنسي والأخلاقي، انبثق منه حركة سياسية متمثلة في “حزب الشباب الدولي” Youth International Party – Yippies، أسسها جيري روبين (1938 – 1994) وآخرون، تناهض الرأس مالية المتوحشة والحروب (حرب فييتنام)..

Herbert Marcuse

وهذا التيار المضاد أزعم أنه تم بشكل أو بآخر احتواؤه هو أيضا في شكل من أشكال الـ Lifestyle Marketing، باعتباره نمطا من أنماط الحياة المختلفة التي فتحت سوقا جديدة في حاجة إلى نوع مغاير من السلع.

كان ما يزال المجتمع البريطاني حتى هذه اللحظة منغلقا على أفكاره التسويقية القديمة، القائمة على تصنيف الجمهور وفق الحالة الاجتماعية، وكان الركود الاقتصادي والأزمات التي مرت بها إنجلترا في السبعينيات بمثابة ناقوس الخطر الذي أيقظ رجال المال والسياسة ونبههم إلى ضرورة إيجاد حلول بديلة. وكان البديل هو الاستعانة بخبرات إدوارد بيرنيز، واستنساخ تجربته على أرض بريطانيا مع مطلع الثمانينيات، هذه المرحلة الفارقة التي واكبت تولي المرأة الحديدية مارجريت تاتشر (1925 – 2013) زمام الأمور، واتباعها لسياسية اقتصادية جديدة أكثر حرية، وتركيز خطابها الجماهيري على مبدأ “الفردية” الساحر الجذاب Individualism القائم على تعزيز أهمية الفرد وتلبية رغباته واحتياجاته والدفاع عن مصالحه. وازدهرت هذه السياسة إعلاميا وتسويقيا بتسلم إمبراطور الإعلام الداهية الأسترالي روبرت مردوخ مفاتيح اللعبة.

Rupert Murdoch

كان تطبيق علم النفس التحليلي متمثلا في أفكار سيجموند فرويد وإدوارد بيرنيز ومن تبعهم، بالنسبة لرجال البيزنس -كما ذكرنا- هو أمرا مثاليا ليس هناك أفضل منه مطلقا. ولكن ما لم ينتبه له رجال السياسة حينما اشتهوا تطبيق هذه النظريات واستخدامها في حملاتهم الانتخابية، هو أن غرض رجال البيزنس الأساسي لم يكن تحرير الإنسان، وإنما كان إيجاد طرق جديدة للسيطرة عليه، واستغلاله والاستفادة منه، في حين أنه في التجربة السياسية، وإطلاق الحديث عن مبدأ الفردية، أصبح الناخب أكثر قوة وأكثر مطالبة بحقوقه وسعيا في محاكمة مرشحه، حيث لم يعد يدفع الضرائب هكذا بلا مقابل، وإنما صار ينتظر خدمات ووعود، وصار أكثر انتباها ووعيا بهذه الأمور. ولهذا دخل الساسة في مآزق حينما اصطدموا بالواقع وشعروا حينها بالعجز عن تحقيق ما وعدوا به ناخبيهم، كما حدث مع بيل كلينتون مثالا على التجربة الأمريكية، ومع طوني بلير مثالا على التجربة الإنجليزية… ومن ثم يرى المراقبون والمنظرون أن في الحالة السياسية لا يصح اعتماد رؤية فرويد المخاطبة لـ لاوعي الجمهور وغرائزه وشهواته فقط، وإنما يجب أيضا مخاطبة وعيه، وذلك من واقع ضرورة تحمل المسؤولية ومواجهة المصاعب والتحديات، ولعدم فقد المصداقية ومن ثم الفشل.

———————-

نشر المقال أول مرة في ٣١ أغسطس ٢٠١٦
تأسس المقال على فيلم BBC الوثائقي بعنوان The Century of the Self للمخرج Adam Curtis.