تعتبر أفكار الألماني مارتن لوثر (1483 – 1546) التي نشرها في كتابه (أن عيسى ولد يهوديًا) هي المفتاح لشرح هذه المسألة، لأنها أحدثت -كما تواتر القول- ثغرا في الفكر المسيحي الغربي لا يزال يتسع حتى يومنا هذا.
ولوثر هو أحد رواد حركة الإصلاح الديني في أوروبا العصور الوسطى ومؤسس المذهب البروتسانتي اعتراضا على الثيوقراطية الكاثوليكية وبابوات روما وتفشي مظاهر الانحلال والفساد فيهم.
كان من أهم مبادئه الـ 95 التي أعلن عنها في وثيقته الشهيرة التي كتبها في أكتوبر عام 1517 هو: جعل الخضوع التام الواجب على المسيحي لنصوص الكتاب المقدس وحدها، بعد أن كان حق التفسير والفهم لنصوص الكتاب المقدس مقصورًا على رجال الدين، وذلك حتى يكون الدين ما تنطق به أفواههم وليس لأحد أن يعقب على قولهم.
فألغى بذلك الحجاب الذي أقيم بين المسيحي وكتابه، وفتح باب التفسير لكل مثقف ذي فهم، وإذا كان ثمة نص لم يفهم توقفوا عن فهمه، فإن أبدى رجل الدين رأيا في فهمه قبلوه إلا إذا خالف نصا ظاهرا لا مجال للتأويل فيه.
أما فيما يتعلق بموقف مارتن لوثر تجاه اليهود: «فلقد اعتبره البعض محبا للسامية أحيانا ومعاديا لها، بل ومبشرا بالنازية الألمانية اللاسامية في أحيان أخرى بسبب مواقفه من اليهود المتناقضة تماما والمثيرة للجدل» [د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص(32)].
حرص لوثر على دراسة اللغة العبرية، ولكن ذلك لم يعني دفاعه عن اليهودية كديانة، إنما كان اهتمامه الأول -كما يذكر هو نفسه- “حفظ الأدب العبري لأجل الدراسات العلمية، لا لأجل فضائل اليهود واليهودية في حد ذاتها” [Jaroslav Pelikan and Helmut T. Lehmann: Luther’s Works, 47:127]
وفي مطلع عام 1520، شرع لوثر في ترجمة الإنجيل إلى الألمانية، وبترجمة الكتاب المقدس للغات القومية أصبح أكثر الآثار الأدبية شيوعًا، وأصبح ما ورد في العهد القديم من تاريخ ومعتقدات وقوانين العبرانيين وأرض فلسطين -التي حكموها لأقل من ألف عام- أمورا مألوفة في الفكر الغربي، وغدت قصص وشخصيات العهد القديم مألوفة كالخبز، وأضحى كثير من الپروتستانت يرددونها عن ظهر قلب. وأصبح المسيح نفسه معروفا ليس بأنه ابن مريم فحسب، بل واحد من سلسلة طويلة من الأنبياء العبرانيين. وحل أبطال العهد القديم كإبراهيم وإسحاق ويعقوب محل القديسين الكاثوليك [ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص24 بتصرف].
وبالتالي أدى الإعجاب بالماضي اليهودي إلى احترام اليهودية المعاصرة، وكان من نتائج ذلك أن ازداد التسامح في الأراضي الواقعة تحت النفوذ السياسي الپروتستانتي [السابق، ص27].
وفي هذه الفترة التي أصبح فيها العهد القديم مصدر المعلومات التاريخية العامة، بدأت عملية التزوير التاريخي. وقد وجد التزوير الصهيوني الحالي للتاريخ الذي يدعي (حقا تاريخيا) في فلسطين مادته المسيحية في التمسك بحَرْفية الكتاب المقدس. وأخذ التاريخ الشامل لفلسطين يقلص بشكل تدريجي إلى أن اقتصر على القصص المتعلقة بالوجود اليهودي وحده، وأصبح الأوروپيون مع مرور الوقت مهيئين للاعتقاد بأنه لم يكن هناك في فلسطين إلا الأساطير والقصص التاريخية والخرافات الواردة في العهد القديم، والتي لم تعد تؤخذ على حقيقتها، بل اعتبرت تاريخا صحيحا؛ فصارت لا هجرة سوى هجرة إبراهيم ولا وجود لمملكة غير مملكة داود التي سبقتها وتلتها ممالك كثيرة، ولم يعد الناس يذكرون من الثورات إلا ثورة المكابيين (167ق.م). وكان يبدو وكأن لا وجود للشعوب الكثيرة التي استوطنت وعاشت في فلسطين، مع أن معظمها عاش فترات أطول من اليهود [السابق، ص25-26].
يلاحظ أن مارتن لوثر قد اتخذ موقفا مغايرا تجاه اليهود خلافا لما كانت عليه ثقافة العصور الوسطى السائدة حينذاك، ويمكن لنا تحليل موقف لوثر من خلال تقسيم كتاباته المتعلقة باليهود وفقا إلى حقبتين متميزتين: ما قبل عام 1537 وما بعده؛ ففي عام 1523 صنَّف لوثر رسالته (أن عيسى ولد يهوديا Daß Jesus ein Geborner Jude Sei)، ولقد بدت أهداف لوثر التبشيرية في هذه الرسالة واضحة، وكان مما قاله: «لنبدأ مع اليهود بالرضاعة، وذلك بتعريفهم أن هذا الرجل يسوع هو المسيح الحقيقي، ثم بعدها بإمكانهم شرب النبيذ، ويتعلموا أنه كذلك هو إله حقيقي» [Luther’s Works 45:229].
ويقول كذلك: «شاء الروح القدس أن ينزِّل الكتب المقدسة إلى العالم عن طريقهم فقط؛ إنهم هم الأطفال، ونحن الضيوف والغرباء، تمامًا مثل المرأة الكنعانية، ولا بد لنا أن نرضى أن نكون كالكلاب التي تأكل الفتات الذي يتساقط من مائدة ساداتهم» [Jewish Encyclopedia: Luther, Martin (xxv. 260)].
ولقد دعا إلى تعظيم العهد القديم (التوراة) حيث قال: «أنا على اقتناع بأن اليهود إذا سمعوا إلى مواعظنا، ورأوا كيف نتعامل مع العهد القديم، فسوف نكسب الكثير منهم» [Luther’s Works 45:200].
ولكن آماله كانت ساذجة، وقليل كان عدد من تبعه وتنصر؛ وقد عبّر عن هذا العالم اللاهوتي رولاند باينتون (1894-1984) -وهو أحد أشهر كاتبي سيرة لوثر- بقوله: «عندما سعى [لوثر] في تنصير بعض الربّيين، سعوا في المقابل إلى تهويده».
ولقد وصل لوثر إلى قمة يأسه نحو عام 1536، وذلك بسبب اعتراض الحاخامات اليهود على رؤية لوثر المسيحية في تفسيره للعهد القديم.. وفي هذه الفترة كذلك شاعت الأخبار حول قيام اليهود في مقاطعتي مورافيا وبوهيميا بمحاولات لتهويد النصارى، واستجابة بعض النصارى لهذه المحاولات، حيث قاموا بأداء شريعة الختان وتعظيم يوم السبت، والاعتقاد في المشَيحانية وغيرها، وعرف هؤلاء النصارى باسم السبتيين Sabbatarians.
حينها أحس لوثر بالخطر، وشرع في التصدي لهم، فألف في عام 1538 رسالته المختصرة في الرد على السبتيين Brief wider die Sabbather an einen guten Freund، حيث قام فيها بتفنيد شبهاتهم. وشرع بعدها «ألا يكتب أي شيء آخر لا عن اليهود ولا ضدهم» [Luther’s Works 47:133, See, James Swan: ch. VIII (1538: Luther’s Treatise “Against the Sabbatarians”)].
ولكنه لم يبقِ على عهده؛ ففي عام 1543م -أي قبيل موته بثلاثة أعوام-كسر حاجز الصمت، وألف رسالته (عن اليهود وأكاذيبهم Von den Jüden und iren Lügen)
جاءت رسالته هذه كرد على منشور دفعه إليه أحد كونتات مورافيا، كتبه أحد اليهود، ويحوي هجوما حادا على المسيح وأمه مريم عليهما السلام، بل على تفسيرات لوثر للعهد القديم كذلك، فطلب الكونت من لوثر قراءته والرد عليه.
يقول لوثر في مقدمة رسالته: «كنت قد قررت أن لا أكتب أكثر، لا عن اليهود، ولا ضد اليهود، لكن منذ أن علمت أن هؤلاء الناس الأشرار الملعونين لا يتوقفون عن الدعاية لأنفسهم ومحاولة كسبنا نحن المسيحيين أيضًا؛ فإنني نتيجة لذلك سمحت لنفسي بنشر هذا الكتيب للإعلام بأنني سأكون من الآن فصاعدًا بين أولئك الذين يقاومون مثل هذه النشاطات السامة لليهود، ولكي أنبِّه المسيحيين أن يكونوا على حذرهم منهم» [مارتن لوثر: اليهود وأكاذيبهم، ص51].
وختم رسالته بقوله: «وفي النهاية أقول لنفسي: إذا كان الله لا يرسل إليّ مسيحا من عنده يختلف عن المسيح الذي ينتظره اليهود ويعلقون عليه رجاءهم، فأفضل لي لو مُسِخت خنزيرا، فلا أبقى بعد ذلك إنسانا» [السابق، ص146].
وكان من آخر أقوال لوثر قبيل موته أنه «سيتفرغ للعمل على طرد اليهود من هذه البلاد».
ولكن لم يأخذ أحد توصيات لوثر (بطرد اليهود وهدم معابدهم وإعدام كتبهم…إلخ) على محمل الجد، ومعظم السلطات لم تضعها موضع التنفيذ، وذلك نظرًا للدور الاقتصادي المهم الذي كان يؤديه اليهود [Luther’s Works 47:267 (Editors Comment, footnote 173)].
وفي الجملة، رفضت السلطات السياسية الپروتستانتية اتباع توصيات لوثر، وهذا ما أثبتته الحقبة التي تلت وفاته.
حتى ذلك التوقيت، كانت الأيديولوچية الصهيونية المعهودة غائبة تماما، وأخص بالذكر غير اليهودية منها، ولعل لوثر كان أول من أشار إليها بطريقة غير واعية في كتابه (عن اليهود وأكاذيبهم) حينما قال: «وغريبة الغرائب أننا إلى اليوم لا نعلم السبب في حلول اليهود بيننا، وأي شيطان جلبهم إلينا. فنحن لم نأت بهم من بيت المقدس، وفوق كل ذلك لا أحد منا يأخذ بحُجُزاتهم اليوم ليقيموا عندنا وفي أرضنا، فالطرق السريعة مفتوحة لهم إلى أي مكان يريدون أن يرحلوا إليه، ويمكنهم الانتقال إلى بلدهم في أي وقت يشاءون. وإذا هم اختاروا الرحيل عنا، فنحن مستعدون أن نقدم إليهم حسن المعونة، حتى نتخلص منهم. فهم عبء ثقيل علينا في وطننا، بل هم أشبه بالوباء والطاعون، وما رأينا منهم إلا النكبات!» [مارتن لوثر: اليهود وأكاذيبهم، ص(113-4)]، وقال كذلك: «فإذا شاءوا فليعودوا إلى أرض كنعان، ويقيموا أحكام الشريعة، ويُخضِعوا لهم الوثنيين والغرباء. وحينئذ فليمتصوا الغرباء الأجانب بالربا قدر ما يحتمل هؤلاء منهم» [السابق، ص(125-6)].
والأمر كما يقول الباحث محمد السماك: «إن الأفكار أشبه ما تكون بالڤيروسات، فهي تعيش وتنتشر عندما تجد استعدادًا لتقبلها، وهي تموت وتندثر عندما تواجه مناعة ترفضها وتقطع أوصالها» [قاله في مقدمة ترجمته العربية لكتاب جريس هالسل: النبوءة والسياسة، ص(25)].
باختصار من كتاب: حصان طروادة؛ الغارة الفكرية على الديار السنية – عمرو كامل عمر.