معركة كسب القلوب والعقول

مركز تكوين: هل نجح الغرب في كسب القلوب والعقول؟

طالما كان الاستشراق أداة في أيدي القوى الاستعمارية الغربية؛ فهو – كما يصفه إدوارد سعيد – «يكتسب قوة تؤثر في ثلاث جهات:

في الشرق، وفي المستشرق، وفي (المستهلك) الغربي للاستشراق»، بل ومن أهم أهدافه «تطويع الشرق حتى يلائم المقتضيات الأخلاقية للمسيحية الغربية».

وهذا لا يمنع أنه في أحد مستوياته له أهداف علمية خالصة لا يقصد منها إلا البحث والتمحيص، ولكن أتباع هذا المنهج، كما يذكر الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى: «قليل عددهم جدًا، وهم مع إخلاصهم في البحث والدراسة لا يسلمون من الأخطاء والاستنتاجات البعيدة عن الحق». 

قديمًا، وفي مقالة له بعنوان (إعادة النظر في دراسات المناطق)، قال المستشرق الاسكتلندي هاميلتون چِبّ (1895-1971م): «إنه لا ينبغي اعتبار الدراسات الشرقية أنشطة علمية بقدر ما تعتبر أدوات في أيدي السياسات القومية تجاه الأمم التي حصلت حديثًا على استقلالها وربما يصعب التعامل معها في عالم ما بعد الاستعمار»اهـ.

والذي يعنينا في قول چِبّ المتقدم هو إشارته إلى «الأمم التي حصلت حديثًا على استقلالها وربما يصعب التعامل معها في عالم ما بعد الاستعمار»، وهو تعبير غير دقيق في ذاته؛ فهو عالم ما زال مستعمرًا بالفعل، ولكن يرتدي الاستعمار فيه ثوبًا فكريًا-اقتصاديًا من طراز جديد! ولكنا لو سلمنا جدلًا لقوله نجد أن تخوفه يكمن في أن تحرر الأمم من هيمنة الاستعمار العسكري السافر قد يؤدي بها تلقائيًا إلى عودة الالتفاف حول ثقافاتها التي هي نبع هوياتها، والتي عادة ما تكون هوية دينية لا غير، كما قال الأستاذ محمود شاكر رحمه الله أن «رأس كل ثقافة هو الدين بمعناه العام».

وحتى مع إبقاء هذه الهيمنة العسكرية عندما تقتضي الحاجة، فكما يذكر چون إسپوزيتو وداليا مجاهد أنه «قد لاحظ الخبراء العسكريون أن القوات العسكرية يمكن أن تأسر وتقتل الإرهابيين، ولكنها ليست مؤهلة لكسب النضال في سبيل العقول والقلوب»، وهذا هو الصالح الأعم.

إذن، فوفق تصوُّر چِبّ وملاحظة الخبراء العسكريين، لا بد من إجراء بعض التعديل المرحلي في المسار الاستشراقي، مع إبقاء العمل بالمسار الاستعماري التقليدي حسبما تقتضي الحاجة، وذلك من باب إبقاء الهيمنة الغربية وإحكام القبضة على العالم الإسلامي وثرواته.

حرب الأفكار: معركة كسب القلوب والعقول:

وهذا التعديل في المسار تتكشَّف معالمه في عدة أمور، ولعل من أوضح ما وقفت عليه رسالة أرسل بها عضو الكونجرس الأمريكي توم لانتوس (1928-2008م) إلى وزير الخارجية السابق كولين پاول في عام 2002م، حيث عرَّف هذا المسار الجديد بـ«معركة القلوب والعقول Fight for Hearts and Minds الطويلة الأمد في الحرب العالمية ضد الإرهاب». كذا عرَّفه دونالد رمسفلد في حواره مع جريدة (واشنطن تايمز) في يوم الجمعة 24 أكتوبر 2003م، بكونه «حرب أفكار War of Ideas»..

جوج بوش الابن – توم لانتوس

لم يكن هذا المسلك بالأمر المبتدع؛ فلقد سلكته الولايات المتحدة قبل ذلك في حربها الباردة ضد الشيوعية السوڤيتية، وكما يذكر توم لانتوس في رسالته المتقدمة أن هذا المسلك كان «عاملًا رئيسًا في تقويض الاتحاد السوڤيتي من الداخل». إذن فهي طريقة مجرَّبة وفعالة!ولكن هناك فرق؛ فالسوڤيت، كما يذكر الصحافي الأمريكي توماس فريدمان، «كانوا يحبون الحياة أكثر من كرههم لنا، وبغض النظر عن الخلافات بيننا، كنا نتفق على قواعد أساسية للحضارة»، أما مع التيار الأصولي الإسلامي، فـ«نحن نواجه قومًا يكرهوننا أكثر من حبهم للحياة».

ولذا، فإن خوض هذه المعركة مع العالم الإسلامي ربما يحتاج إلى إجراء بعض (التكتيكات) الخاصة!

شيريل بينارد والإسلام المدني الديمقراطي:

ولعل من أبرز من تصدر لوضع هذه التكتيكات هي الباحثة شيريل بينارد، وهي ناشطة تابعة لمؤسسة راند RAND الأمريكية للأبحاث، حيث تدير قسم (المبادرة من أجل شباب الشرق الأوسط Initiative for Middle Eastern Youth IMEY)، وهي كذلك زوجة الأمريكي الأفغاني الأصل زلماي خليلزاد، سفير أمريكا لدى الأمم المتحدة، وهو أحد أهم أركان اليمين المتطرف، ومشارك رئيس في وضع خطة الحرب الأخيرة على العراق.

شيرل برنارد chery benard - الإسلام المدني الديمقراطي Civil democratic Islam
شيرل برنارد – Chery Benard

ففي عام 2003م، صدر عن مؤسسة راند دراسة تحليلية لبينارد تحمل عنوان: (الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والاستراتيچيات Civil Democratic Islam: Partners, Resources, and Strategies)، قامت فيها بوضع الخطوط العريضة التي قامت عليها حرب الأفكار، أو حرب القلوب والعقول، مع العالم الإسلامي المعاصر.

شيرل برنارد chery benard - الإسلام المدني الديمقراطي Civil democratic Islam --
الإسلام المدني الديمقراطي – Civil Democratic Islam

ولو استعرضنا أهم ما جاء في هذه الدراسة، نجد أن بينارد قامت ابتداءً بتقسيم المسلمين المعاصرين إلى أربعة أصناف، تبعًا لموقفهم تجاه عدد من القضايا الشائكة المختلف فيها؛ فقسمت المسلمين إلى:

  • أصوليين Fundamentalists.
  • وتقليديين Traditionalists.
  • وعصرانيين Modernists.
  • وعَلْمانيين Secularists. 

وكل منهم من الممكن أن يلتقي مع الذي يليه في المرتبة على قدر موقفه من بعض هذه القضايا أو كلها. فهذا التقسيم أشبه – على حد وصفها – بالطَيْف Spectrum.

ثم تذكر بينارد أن المشكلة تكمن أساسًا في الأصوليين، فهؤلاء مرجعيتهم «ليست الدولة أو الوطن أو الجماعة الإثنية Ethnic [أي العرقية]، ولكنها المجتمع الإسلامي، الأُمَّة The Ummah وذلك مع اعترافها بأن «ليس كل الأصوليين يعتنقون أو حتى يقرون بالإرهاب، على الأقل الإرهاب غير المُمَيِّز Indiscriminate Type of Terrorism، الذي يستهدف المدنيين، وأحيانًا يقتل المسلمين جُملةً مع العدو».

ولكن الفكر الأصولي المنتشر لا يتوافق – في نظرها – مع روح المجتمع العصري، فتقول: «المجتمع الديمقراطي العصري لن يؤيد قوانين الشريعة… العصرانية لا تتوافق مع تطبيق عقوبة الموت أو الرجم للزناة، أو قطع الأطراف كعقوبة مقبولة. إنها كذلك لن تتوافق مع التفرقة الجبرية بين الجنسين، والتمييز الصريح المبالغ فيه ضد المرأة في قوانين الأسرة، كذلك القضاء الجنائي، والحياة العامة والسياسية».

ولذا فهي تنصح بـ«تجنب زيادة أسلمة Over-Islamizing المسلمين، ولكن تعويدهم على فكرة أن الإسلام من الممكن أن يكون مجرد جزء من هويتهم».

ثم تقدم شيريل بينارد الحل، والذي – لا ريب – لا يكمن في دعم الأصوليين، فـ«إن دعم الأصوليين ليس هو الصواب، إلا لاعتبارات تكتيكية وقتية»، ولكن الحل يكمن – في رأيها – في دعم الرؤية العصرانية الإسلامية، تقول: «إن الرؤية العصرانية تتوافق مع رؤيتنا. من ضمن كل المجموعات، تلك هي أكثر مجموعة متجانسة مع قيم وروح المجتمع الديمقراطي العصري». 

وتضع بينارد خطة عملية للقضاء على خطر الأصولية الإسلامية، والتي نلخص بعضها في النقاط التالية:

دعم العصرانيين أولًا: وذلك عن طريق:

  • نشر وتوزيع كتاباتهم بأسعار مخفضة.
  • تشجيعهم على الكتابة لقطاع واسع من الجماهير وخاصة الشباب.
  • بث أفكارهم في المناهج الدراسية الإسلامية.
  • جعل آرائهم في المسائل الأصولية للتفسير الديني منافسة لآراء الأصوليين والتقليديين.
  • عرض العَلْمانية والعصرانية كثقافة معارضة أو بديلة Counterculture للأصولية الإسلامية للشباب المسلم غير المتأثر بها.
  • تيسير وتشجيع المعرفة بالثقافة والتاريخ الـ(ما قبل) و(غير) الإسلامي، وذلك عن طريق وسائل الإعلام والمناهج الدراسية في البلاد الإسلامية. 

ثانيًا: مواجهة الأصوليين: وذلك عن طريق:

  • الطعن في تفسيرات الأصوليين للإسلام والتشكيك في صحتها.
  • إثبات عدم قدرتهم على قيادة البلاد والمجتمعات للوصول إلى تطورات إيجابية.
  • تضخيم حجم الخلافات والانقسامات بين الأصوليين.
  • تشجيع الآراء والفتاوى ذات المرجعية الحنفية (ذات الميول العصرانية على حد قولها) على الانتشار، وذلك لإضعاف نفوذ الآراء والفتاوى ذات المرجعية (الوهابية/الحنبلية).
  • ترويج التصوف الإسلامي.
  • تشجيع الصحافيين العرب في وسائل الإعلام الرائجة على إعداد تقارير عن الحياة الشخصية والفساد الأخلاقي للقادة الأصوليين، ونشر الحوادث التي يستدل بها على وحشيتهم. 
  • تكوين جماعة مقاومة أو رافضة للحديث Counterhadith، وكل ذلك من أجل الذين يأملون في إقامة مجتمع أكثر تسامحًا، متساوٍ، وديمقراطي، عن قناعة بأن التغييرات التي يتطلعون إليها من غير الممكن أن تكون إسلامية.

وثالثًا: دعم العَلْمانيين: وذلك عن طريق:

  • إحباط تحالفاتهم مع الحركات القومية واليسارية المعادية للولايات المتحدة، وتوجيههم إلى معاداة الأصوليين الإسلاميين باعتبار أنهم هم العدو المشترك.
  • ترسيخ فكرة أن الدين والدولة من الممكن فصلهما في الإسلام مع التأكيد بأن هذا لا يعرِّض العقيدة للخطر، بل على العكس من ذلك، فإنه يقويها.

وبحكم إدارتها لقسم (المبادرة من أجل شباب الشرق الأوسط)، تقول بينارد: «نظرًا لصعوبة إقناع الجيل الحالي المتعلق بالحركات الراديكالية الإسلامية بالعدول عن أفكاره، فمن الممكن لنا التأثير على الجيل القادم لو أضفنا رسالة الإسلام الديمقراطي إلى المناهج الدراسية ووسائل الإعلام في البلاد المعنية بالأمر»اهـ..

المصادر وقراءة المزيد في كتاب: حصان طروادة، الغارة الفكرية على الديار السنيّة.


شاهد أيضا، فيديو: كيف ينظر جيل ما بعد ١١ سبتمبر لأحداث غزة ٧ أكتوبر؟