لما اجتاح الإسكندر الأكبر بلاد الشرق، فارس والهند ومصر، كتب له أستاذه أرسطو ينهاه عن هذا الغزو؛ لأن من شأنه القضاء على تميز الجنس اليوناني حين يحتك اليونانيون بالشرقيين. ولكن جاءه رد الإسكندر قائلًا إنه يغزو الشرق «لأجل أن يجعل الثقافة والفكر اليونانيين هما فكر العالم وثقافته».
حينما تدبرت هذه الرواية، لاحت في خاطري حقائق ومسائل..
الأولى: هي أنه عند التأمل في سنن الله تعالى في خلقه، تجد ميلًا إنسانيًا غير محدود إلى ما اصطُلِح على تسميته بالعولمة، وتوسيع النفوذ وبسط السلطان، وتجد أحلامًا فطرية بالحركة في عالم واحد بعيد عن الحدود والقيود، حالت الحقائق الجغرافية وتباين الثقافات والمصالح دون تحقيقها، مصداقًا لقول الله تعالى: (وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم) [المائدة: ٤٨]، وذلك من إرادته الكونية القدرية: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: ٢٣].
والثانية: هي أن الشارع الحكيم -جل جلاله- بحكمته وإرادته الدينية الشرعية حضَّنا على الوحدة وعدم الاختلاف، فقال تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران: ١٠٣]، بل جعل الاختلاف من صفات غير المرحومين، وذلك في قوله تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ) [هود: ١١٨ – ١١٩]، وأوجب علينا كأفراد اتِّباع الشرع والإيمان بالقدر، وليس ترك الشرع والاحتجاج بالقدر.
وعند استحضار هذين الأمرين تتبين لك حكمة الخالق تبارك وتعالى من وضعه هذه الغريزة في الإنسان، ثم ترشيدها بتوظيفها في غاية عليا وهي وظيفة “التبليغ عن الله”، والتي منها كانت بعثة الرسل والرسالات. حتى تُوِّجَت هذه الوظيفة في رسالة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وأُخْرِجَت من الخصوص إلى العموم بقول الله جل وعلا: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران: ١١٠]، وبقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) [الأعراف: ١٥٨]، وأُطِّرَت هذه الوظيفة بإطار الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله، بل جُعِلَ هذا الإطار هو الحد الشرعي للاتفاق والاختلاف بين البشر.
أما الثالثة: فهي أن الحق واحد لا يتجزأ، والباطل ظلمات بعضها فوق بعض: (هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ) [الرعد: ١٦].
والرابعة: أن الله تبارك وتعالى قضى بانقسام البشر إلى فريقين: مؤمن وكافر: (وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) [الأنعام: ٣٥]، وقد جعل الأرض دارًا يتقاسمها ويتعايش فيها الفريقان، وجعل الأيام بينهما دولًا، حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، ويُسكِن كلاهما داره الأبدية: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى: ٧]، جزاء بما قدمت أيديهم، وأن الله ليس بظلام للعبيد؛ فلقد هدى الله تعالى الإنسان السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا، وأخبر بأنه: (مَن أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل: ٥ – ١٠].
والخامسة: أن الخطوط العريضة التي قام عليها الصراع الأزلي تأسست على قول المولى عز وجل: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج: ٨].
وعند استحضار مشهد الصراع القديم وتبعاته بين القوى العظمى الثلاثة: (الرومية/المسيحية)، و(الفارسية/المجوسية)، و(العربية/الإسلامية)، تجد مصداق هذه الحقائق مجتمعة؛ حتى وإن ضاقت هذه الدوائر الثلاثة الكبرى تجد نفس الحقائق تتجلى في دوائر (طائفية) داخلية صغرى.. فدل ذلك على أن السلوك الإنساني العولمي الفطري يدفعه محرك ثقافي هُوِيَّاتي في المقام الأول، وكما يذكر العلامة أبو فهر رحمه الله، فإن «رأس كل ثقافة هو الدين بمعناه العام»، والإنسان هو أحد رجلين: إما داع أو مدعو، ولذلك تجد أن الثقافة المفروضة هي ثقافة الغالب عادة.
وحتى لما تمرد الإنسان الغربي وتحرر من السلطة الدينية المهيمنة عليه، المناقضة لصريح فطرة الإسلام التي فطر الله الناس عليها، وفصل دينه عن دنياه، وظل ماضيًا في طريقه سعيًا لتحقيق طموحاته التوسعية، وصارت له القوة والغلبة، طغى شرقًا وغربًا بفكره المتحرر من قيود الأخلاق والدين، داعيًا إلى ثقافة “السلام الإنساني” المشبوهة، بمصطلحاتها المائعة كالتقريب والتعايش والحوار وما شابه، وخارت له قوى كثيرة ودارت في فلكه على غير هدى، ولكنه في ظل دعوته تلك لم يتمكن من التخلص من شبح الصراع القديم الذي لا يزال يتسكع في لاشعوره، فلم ينفك الصراع عن صورته الأولى، ولكنه تنكر في ديباجة بيضاء، تحمل في طياتها صفحات دموية سوداء.
والحديث ذو شجون، والمسألة أراها مركَّبة يشوبها بعض المتناقضات!؛ ففي الوقت الذي تجد فيه أصواتًا “غير مسلمة” تحذر من خطر الإعصار العولمي العَلْماني النفعي الكاسح، وتنادي بضرورة التمسك بالجذور الثقافية الدينية، تجد هذه الأصوات تجتمع مع ضدها لاقتلاع جذور الصحوة الإسلامية الصاعدة. ولكن سرعان ما ينجلي هذا التناقض حينما نراجع الحقائق السالفة، ونستوعب معنى “الأمم” في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكَلَةُ إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت» [رواه أبو داود وصصحه الألباني]، فالإنسان جبل على حب السيادة، والكفر ملة واحدة.